«جون سيلفر» وكنزه المدفون في ذواتنا

«جون سيلفر» وكنزه المدفون
في ذواتنا
«جون سيلفر» وكنزه المدفون
في ذواتنا

أليس مثيراً للتأمل أن القوانين من صنعنا نحن البشر, إلا أن أغلبيتنا يعجب بالخارجين عليها أكثر من الملتزمين بها؟ "جون سيلفر" القرصان الشهير, بطل المسلسل الكرتوني "جزيرة الكنز" إحدى هذه الشخصيات الخالدة. الشخصية "المهزومة جداً من داخلها لكنها لا تستسلم أبداً".
"سيلفر" القرصان القافز باستمرار على القانون, الذي يتقبل حتى خساراته بأخلاق الفرسان, أولئك الذين دائماً ما يظل لديهم حد أدنى من الأخلاقيات التي لا يمكن تجاوزها.
قبل البدء في تقديم إضاءات تحليلية لشخصية "سيلفر" بين ما هو نفسي وما هو أخلاقي. لا بد من الإشارة إلى أن مسلسل "جزيرة الكنز" مقتبس من رواية الروائي البريطاني روبرت لويس ستيفنسون، الذي يعتبر عمله السردي قمة وذروة إنتاجه الأدبي.
نشرت الرواية في كتاب لأول مرة في عام 1883, غير أنها كانت تنشر قبلها بأعوام كحلقات في مجلة مخصصة للأطفال. واستوحى أحداثها من حكاية كنز مدفون رسم أول خيالاتها في ذهنه وهو يخطط لجزيرة خيالية ليسلّي بها ابن زوجته في يوم عطلة عابر.

#2#

أول معالم هذا العمل الفاخر في نسخته العربية, يبدأ من أغنية المقدمة التي أداها الموسيقار والمطرب اللبناني سامي كلارك الذي اشتهر بأدائه الأوبرالي وإجادته لغات عديدة. وهو الحائز جوائز عالمية في مهرجانات موسيقية من فرنسا إلى بلغاريا إلى اليونان إلى ألمانيا والنمسا. وهو بالمناسبة مؤدي أغنية المسلسل الكرتوني الشهير بدوره "غراندايزر".
في إحدى حفلاته واسعة الانتشار قبل أعوام قريبة طالبه الجمهور الحاضر الذي ملأ أرجاء المسرح بأداء أغنية "جزيرة الكنز" رغم مرور ما يقرب من 30 عاماً على أدائها أول مرة, في أجواء كرنفالية مثيرة وتفاعل جماهيري لافت.
ولتكن الجملة التي أداها كلارك في مقدمته الغنائية لهذه الأعجوبة الكرتونية مدخلاً مناسباً لهذا السرد "النستالوجي", حين صدح في منتصف المقطوعة قائلاً : "ها نحن ذا على دروب كنزنا, نسير معاً وأمالنا تسير قبلنا".
وأحداث رواية "جزيرة الكنز" تُروى على لسان الصبي (جيم هوكنز)، الذي كان يعيش مع أمه في نزل صغير عُرف باسم "أمير البحر بنبو". وفي يوم يدخل النزل قبطان سفينة قديم يدعى بيلي بونز ليقيم فيه عدة أيام. وقد كان بيلي هذا يمتلك خريطة سرية لجزيرة نائية أودع فيها الكابتن فلنت كنزه.
تبدأ الأحداث عندما يموت القبطان بونز وتقع الخريطة في يد جيم الذي يسلّمها بدوره إلى الطبيب ليفزي، فيجمع هذا الأخير كوكبة من الرجال ويركبون متن سفينة في رحلة طويلة بحثاً عن الكنز، وكانوا قد اختاروا طاقم بحارة للسفينة قبل إقلاعهم، لكن لسوء حظهم فقد كان معظم البحارة قراصنة محترفين وغدارين، كان هدفهم من الرحلة الاحتفاظ بالكنز، ولذلك يجد جيم والطبيب والسيد ترلاوني المالك أنفسهم محاطين بشرذمة من القتلة المتمرسين وهم في عرض البحر, أشرسهم وأذكاهم القرصان.. جون سيلفر.
ليصبح مسرح الأحداث جزيرة نائية, وعناصر حبكة القصة كنز دفين, سفينة في عرض البحر, ورجال يتربّصون ببعضهم بعضا.
في خضم هذه التقاطعات المثيرة بين الشر والخير, الصدق والكذب, والنبل والغدر, الانتصار والانكسار, الفوز والخيبة, بين كل هذه القيم المتضاربة كلياً تتجلى شخصية "سيلفر" التي تحوي شيئاً من كل هذا وذاك، فتربك المتابع الذي يعي أن "سيلفر" قرصان شرير حاد الذكاء واسع الخبرة في الحياة وقراءة نفوس البشر من حوله, لكنه مع ذلك حنون جداً مع جيم, وقادر دائماً على فلسفة سلوكه الإجرامي بطريقة تحوي بعداً إنسانياً عميقاً.
فيثير حيرة المشاهد الذي تتناقض قراءته العقلانية التي ترفض سلوك "سيلفر"، لكنها تتعاطف تماماً في الوقت ذاته مع الدوافع النفسية لقراراته, هذا القرصان ذو الساق الواحدة قوي العزيمة.
"سيلفر" حتماً ليس شريرا تقليديا, هو خارج عن القانون الذي وضعه الآخرون, لكنه يلزم نفسه بقوانين وضعها هو لنفسه بناء على تجاربه الذاتية والشخصية في الحياة.
ويظهر كفيلسوف متمرس في شرح دوافعه النفسية والعقلية وقت الحاجة إلى تفسيرها. وتبرز في هذه السياقات في أغنيته الأثيرة التي يحب ترديدها طول المسلسل "خمسة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق". في إشارة إلى رحلة بحث الإنسان عن معنى لحياته قد يدفع عمره ثمناً له.
تتجلى مآزق سيلفر "الوجودية" في لقطة متأخرة في الحلقة ما قبل الأخيرة من هذا العمل السردي المتقن. حين يظهر في حوار مع جيم الذي يحبه سيلفر كثيراً رغم أنه محسوب على معسكر "الأخيار".
يبدأ هذا الحوار الأخاذ بين جيم وسيلفر, عندما يقدم جيم له كوب قهوة ساخنا وهو محبوس في قبو السفينة بعد العثور على الكنز, وحرمان سيلفر منه بسبب محاولته الغدر بطاقم السفينة, كالتالي:
جيم: قل لي يا سيلفر ما هو أهم شيء عندك في هذه الحياة؟
سيلفر (بعد صمت) : في الوقت الحاضر هذا الكوب من القهوة.
جيم بعصبية: لا تسخر مني يا سيلفر.
سيلفر: أنا جاد فيما أقوله, بالنسبة لي في هذه اللحظة, هذا الكوب من القهوة يا جيم .. ولكن.. ولكن.. هذا لا يعني أن يتغير كل شيء غداً, بمعنى آخر أهم شيء عندي, هو شيء أنا لا أعرفه بعد. لذلك تجدني أبحث عنه كل يوم دون أن أتعب. هل تظن أني أمضيت عشر سنين أبحث عن الكنز للذة البحث؟ لا يا صديقي جيم. كنت أعتقد أني بمجرد أن أجد هذا الكنز ستتغير حياتي, وأجد أنه ما كنت أعتقد أنه أهم شيء فيها. لكني فشلت وخسرت كل شيء, حتى هذا الكنز الذي وجدته سيظل كنزاً وليس شيئا آخر, لن يكون شيئاً صنعته يداي.. ألا تعتقد أني على صواب يا جيم؟ ربما يأتي يوم أجد ما ضيعت كل عمري في البحث عنه, وإذا لم أجده.. ستصبح حياتي تعيسة, تعيسة جداً يا جيم.انتهى.
ذاك هو "سيلفر" الذي أحببناه, القرصان ذو الساق الواحدة الذي شاركناه رحلة البحث ليس عن الكنز المدفون في قعر جزيرة نائية, بل عن الكنز المدفون في دواخلنا. "سيلفر" الباحث الحائر, الذي عبر عن حيرتنا وتناقضاتنا هو من تعاطفنا معه. وليس "سيلفر" القرصان.. بل "سيلفر" صديق "جيم", وصديقنا.. الإنسان "جون سيلفر".

الأكثر قراءة