تعريب العلوم التطبيقية .. الممكن والمستحيل (1)

بعد الدعوة لحضور مؤتمر المحتوى العربي على الإنترنت الذي أقيم في رحاب الجامعة المتابعة للتطوير والتحديث (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في عام 1432هــ، وجدت أن الموضوع على مستوى المملكة تعليميا يتأخر ولا يتقدم. قد تكون الجهود المبذولة (الأحادية) في مواقع مختلفة تبشر بأن هناك من يسخر طاقاته وممتلكاته لهذا الهدف، وهم يشكرون عليه فعلاً، لكن تظل الحاجة إلى تضافر الجهود. لقد وجدت أن لغة الدراسة في كثير من دراسات العلوم التطبيقية لما بعد المرحلة الثانوية هي اللغة الإنجليزية. هذا يعني أن تمكن الطالب سينشطر في ذهنه بين اللغتين فيتخرج غير مجيد للكتابة بلغته ومختلج الفكر في عرض فكرته بلغة أجنبية سليمة. من ناحية أخرى سيكون النشر العلمي الفكري والإعلامي باللغة العربية مقصورا على أعداد وفئات من المتعلمين استطاعت لتخصصها أو بتميزها أن تقوم بذلك. وهذا ما نقول عنه وحدوية الجهود.
أستطيع القول إن عدم تكريسنا لتعزيز اللغة العربية في هذه المرحلة سيجعل التحضير للدراسة والإنتاج الفكري باللغة الإنجليزية في مستوى متأرجح، بل معيق لتحقيق إنجازات ذات قيمة رفيعة. فإذا كنا نعود الطلاب على التحول للغة أجنبية حديثة عن أن نمكنهم من لغتنا الأصيلة القديمة العريقة فمؤتمراتنا السابقة واللاحقة ستوجه نحو إيجاد حلول للتحديات التي تواجهنا وليست في مضاعفة توثيق إنتاجنا الفكري عالميا وكيفية تطوير ذلك. وستكون الأرقام خجولة إذا ما أردنا أن نتحدث عن لغتنا التي لا تقارعها لغة حية في توارثها بالمكانة والمحتوى أنفسهما.
هناك جامعات ارتقت فاعتلت التصنيف العالمي فيما تقدمه وما تقوم به لمصلحة العلم والتعليم؛ حيث تخصصت في مساراتها فمنها الشاملة ومنها المتخصصة في العلوم التطبيقية ومنها البحثية أساسا، وهكذا. ما يهمنا هو أن العلوم التطبيقية دون استثناء (حتى الصحية منها) تدرس بلغة تلك البلدان مثل ألمانيا وفنلندا والسويد وغيرها، وهي الآن في مقدمة الدول في التعليم والصناعة والاقتصاد. لقد استطاعوا بالترجمة، والتجربة، والتطبيق، والبحث، وتبادل الخبرات أن يضعوا خططا بعيدة المدى ووصلوا بها إلى ما صاروا إليه الآن. في الواقع هم يحفزون الفرد على التعليم المستمر وباللغة ويمكن تعلم اللغة الإنجليزية بجانب اللغة الأم إن أراد. وبذلك يعتبر الفرد شريكا في تحقيق الهدف الأسمى للوطن.
في فنلندا ذات التعداد السكاني الذي لا يزيد على (خمسة ملايين نسمة)، بدأت من أصول سويدية وروسية وستحتفل بمرور 700 عام على تأسيسها بعد عشر سنوات من الآن. امتهان الحرف اليدوية كان ميزتها، لكن الاهتمام بالتعليم منذ أكثر من 120 عاما جعلها تسير بكل فخر واعتزاز في أوروبا التي مرت عليها عصور مظلمة. ولكن قبل (20 عاما) تقريبا نهجت الدولة نهجا جديدا تريد به الجمع بين ما تميزوا به من الصناعات اليدوية منذ القدم وما يرغبون الارتقاء به على مستوى العالم. كان ذلك المنهاج هو اختيار العلوم التطبيقية مجالا تخرج به إلى العالم تترك بعدها بصمة لا يمكن للتاريخ نسيانها. هي أرادت أن تقدم للعالم فكرا علميا ومهنياً متميزاً ومنتجات لا يضاهيها منتج في العالم من حيث الوظيفة والجودة في الصناعة. لكن قبل أن يتحولوا لذلك تماما استقروا كمجتمع ودولة بأن يجب على جميع الأطراف شعبا ومؤسسات وحكومة أن يهتموا بالتعليم الأساسي واللغة الفنلندية فيصبح الخريج مستعدا للتنقل في مستويات التعليم المختلفة النظرية الأكاديمية منها والتطبيقية متقنا بفكره كيف يمارس وظيفته ويطور مهاراته مع مرور الزمن. ولتكون اللغة سائدة لا بائدة منسية لصغر حجم تعداد السكان. هذه الاستراتيجية حبكت بوضع مختلف الاحتمالات ورسم معالم السيناريوهات بتبادل المشورة والرأي مع المجتمع لتحقيق الهدف الأسمى.
إن فنلندا الآن تتربع على عرش التعليم الأساسي والمهني في العالم، وهي كما يقال عنها ''بلد النوكيا'' Nokia، بدأت في منتصف التسعينيات تفتح رسميا الأبواب لعولمة لغتها وتعليمها وقدراتها في معايير التقييم لتكون دائما في الطليعة عالميا.
لقد ظهر للجميع أنهم تقدموا بالفكر لمدارات ومستويات تجعلنا كمجتمعات نتوق لتحقيق هذه الغاية ونحن نتكلم اللغة الحية التي تعتبر من أقدم اللغات وهي ما زالت تحافظ على اللفظ والتركيب. في الواقع لم يبق سوى دفعنا للتنفيذ بأسلوب علمي رصين ومنهجي لتتحقق رؤانا. فكيف نتمم ذلك بكل إصرار وتفان ووضوح رؤية؟
الآن .. هل المطلوب أساتذة عرب أو غير عرب يجيدون اللغة العربية علما وتعليما، أم مناهج باللغة العربية في كل المستويات التعليمية، أم نشر علمي عربي، أم ترجمة من لغات مختلفة، أم تسويق عربي وأجنبي للغة العربية مثل إطلاق قنوات فضائية تكرس للغة العربية أو انطلاق مواقع إلكترونية باللغة العربية، أم قيادة تستطيع إدارة الدفة في المسارات المختلفة للبرنامج؟
أعتقد أننا نحتاج إلى كل ذلك وأكثر في هيئة استراتيجية واضحة يشترك فيها المجتمع مع قيادات الجهات المعنية المختلفة وأساتذة اللغات في الجامعات المحلية وجهابذة اللغة من أنحاء العالم لتكون نموذجية. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي