الوعي المالي ضرورة لا ترف

لا هم إلا هم الدَّين، ولا وجع إلا وجع العين! بهذا المثل الشعبي الدارج أبدأ حكاية اليوم، فالدَّين ــــ بتشديد الدال وفتحها ــــ ما للغير عليك من حقوق والتزامات، وأبرزها المال، وهناك ديون أخرى تعارف الناس على الوفاء بها، لكن يبقى المال هو العامل الأبرز في هذه القضية، وبه تشتد الهموم، ويقاس معيار السعادة كلما كان مؤشر الدَّين منخفضاً، ليس على صعيد الفرد، وإنما حتى على مستوى المجتمعات والدول على حد سواء.
ولهذه المفاهيم حضور بارز في مجتمعاتنا العربية، فهي تبيت مهمومة من هم الدَّين، وتصبح مغمومة من هم المعيشة، وليت الأمر توقف على المعيشة، بل أصبحت السلامة هي أبسط موجود وأعز مفقود، وخذ أمامك من الأمثلة ما تستطيع في دول تشهد ما يسمى ربيعاً، في معنى ظاهره الرحمة، وباطنه العذاب الأليم.
وحتى لا نبتعد كثيراً، ونتوه في زحمة الهموم التي لا تنقضي، وحتى لو كنت مرتاحاً يأتيك الهم لأن من تحب يعانيه، ونستكمل الحديث عن الوعي المالي الذي بدأناه بنصائح للأسر في تربية أبنائها، ونضع رحالنا اليوم في رحاب الأسر نفسها، هل تحتاج بالفعل إلى تربية مالية، أم أنها تجاوزت هذه المرحلة، وما الذي يحدد ذلك، الواقع، أم الحاجة؟ أم ماذا؟ لنرى!
فولي الأمر في الأسر جميعاً، يحتاج إلى وضع النقاط على الحروف أمام أهل بيته، ويصارحهم بوضعه المالي بكل شفافية، ويضع أمامهم أهدافاً مالية واقعية مكونة من ثلاث نقاط: الادخار، والاستثمار، والأمان، وعلى الأم مساندة الأب في تسيير هذا المركب إلى بر الأمان، ويكون هذا بالتدبير وحسن التصرف والبعد عن الإسراف والتبذير.
لقد أشرنا في غير مرة إلى أهمية الادخار، وكلامنا اليوم موجه لمن لم يدخر في حياته قط، ونأخذ على سبيل المثال ـــ لا الحصر ـــ متوسط الدخل في المملكة الذي يقدر بقيمة سبعة آلاف ريال شهرياً، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: كم يفترض أن أدخر في الشهر؟ ولا شك، تصعب الإجابة عن هذا السؤال فهي تختلف من شخص إلى آخر. وقبل أن نجيب يجب أن نكون واقعيين مع أنفسنا، ولا نعيش أحلام اليقظة.
فإذا كان دخلك سبعة آلاف ريال لا يعني أن ترمي بأموالك هباء فيما لا تحتاج إليه، بلا نفقة ضمن إمكاناتك، فشخص دخله سبعة آلاف ريال يصرف منها على الجوال 1500 ريال شهرياً أي ما يعادل 21 في المائة من دخله لا يمكن أن يحتج لقلة راتبه، وعادة ما ينفق المقدار نفسه على المواد الغذائية ومستلزمات المنزل بين 20 إلى 25 في المائة وهو قريب من دخل قيمة إيجار المنزل الذي من المفترض ألا يتجاوز 30 في المائة من دخله، إذن، ما الذي بقي؟ وقبل أن نحتج علينا أن نفكر بين ما نحقق وما نستحق، عندها سنكون موضوعيين في الإجابة.
لكن كيف نبدأ هذا الادخار؟ أعتقد أن البداية تكون بنحو 10 في المائة من دخلك أي 700 ريال في الشهر، وربما يفوت عليك شهر ولا تستطيع تأمين هذا الادخار، لكن هذا لا يعني أنك لا تستطيع توفير سبعة آلاف ريال سنوياً، كما يجب أن يكون لديك حسابان، حساب ينزل فيه راتبك، وحساب تحول عليه كل شهر مبلغ الادخار، وأنصحك بعدم الحصول على دفتر شيكات وبطاقات ائتمان لهذا الحساب، وإنما تكون الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المال عن طريق الذهاب شخصياً للبنك لتعطي نفسك وقتاً تفكر فيه قبل أن تنفق، وهذا الأمر يدخل تحت السلوك الاستهلاكي، أي، إذا أعجبك شيء لا تشترِه فوراً، بل انتظر ثلاثة أيام ثم قرر هل تحتاج إليه فعلاً أم هي مجرد نزوة؟
إذن يا رب الأسرة، اجلس وصارح شريكة حياتك حول هدفكما المالي من حيث الادخار هذا العام، ويجب أن تتابعا بعضاً وتساندا بعضاً حتى تصلا إلى هذا الهدف، ولأنك تحب أسرتك تدخر هذا المال، ولأنك تحب أسرتك ستضع في المستقبل خطة الطوارئ وهي أنك تستطيع العيش من دون دخل لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، هذا هو الحد الأدنى. ولكن الوصول إلى الحرية المالية يتم خطوة خطوة، فالتزم أولاً باستقطاع 10 في المائة من دخلك، و"قليل دائم خير من كثير منقطع".
الأمان كلمة كبيرة جداً وتشمل تحتها العديد من الأمور، فهو ما تحب أن تقدمه لأهلك في حياتك وبعد مماتك، وكل رب أسرة يحب أسرته يفكر كثيراً قبل الدخول في أي مغامرة تجارية، وأكبر خطأ يمكن أن يرتكبه رب أسرة ما، أنه يرهن بيته من أجل عملية تجارية، أو بيع بيته من أجل مغامرة تجارية، بهذه العملية يكون قد أخرج أهل بيته من الأمان إلى عدم الاستقرار في حياته ومماته. اليوم أنت موظف وتستطيع أن تدفع إيجار البيت، ولكن ماذا يحدث لأبنائك لو توفاك الله؟ ومن سيسدد إيجارهم، أو يفي بالتزامهم بعدك؟
الأمان الذي يجب أن يكون هدفاً لك ولشريكة حياتك أنك تعمل لكي تؤمن لهم حياة كريمة آمنة مستقرة، يجب أن تعمل على أن تضع لهم مكاناً يستقرون فيه، ومصدر دخل يقتاتون منه، قد يقول أحد إن هذا صعب في زماننا، ونجيبه: لا شك، فما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا. ولا يتسع مقال اليوم لسرد خطط في الوصول إلى الأمن المالي، وستكون له محطة أخرى.
الاستثمار، مفردة جميلة أخرى نريد أن نمارسها ولا نتوقف عن مجرد الاستماع إليها من هنا وهناك. نعم نستطيع، فمثلاً، يجب أن يكون لك استثمار ولو 5 في المائة من دخلك، قد تقول هذا مبلغ بسيط، لو أخذنا في الاعتبار أن متوسط الدخل سبعة آلاف ريال في الشهر، إذن المبلغ الذي ستستثمره في الشهر 350 ريالاً، نعم لا تستطيع أن تشتري أرضاً أو عمارة أو تفتح مشروعاً، ولكن تستطيع شراء بعض الأسهم، وابحث عن الأسهم التي توزع عليك عوائد، فهذا هدفك وليس أن تحقق ثروة خلال سنة، فهدفك من الاستثمار مبلغ يعود عليك ويساعدك على تأمين حياة كريمة لك ولأهلك في فترة تقاعدك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي