«خفض التيسير الكمي» مُستَبعد هذا العام

أصيبت الأسواق المالية العالمية بحالة من الذهول عندما أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الـ 18 من أيلول (سبتمبر) أنه ليس مستعدا بعد للبدء في الخفض الذي كان متوقعا على نطاق واسع لوتيرة برنامج التيسير الكمي.
فقد صَرّح بن برنانكي رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، بأن البنك سوف يستمر في مشترياته الشهرية من الأوراق المالية الطويلة الأجل بقيمة 85 مليار دولار شهريا. وربما ساعد فهم الأسباب، التي دعت بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تغيير خطته على هذا النحو غير المتوقع؛ في التكهن بما هو آت.
فبعد أن أعلن برنانكي في أيار (مايو) أن البنك يعتزم خفض التيسير الكمي تدريجيا، بدأ المستثمرون يتوقعون بعض الخفض في وتيرة شراء الأصول في أوائل الخريف. ونتيجة لهذا فقد ارتفعت أسعار الفائدة على سندات الخزانة لعشرة أعوام بما يقرب من 50 نقطة أساس، من 1.66 في المائة في الأول من أيار(مايو) إلى 2.13 في المائة في بداية حزيران (يونيو).
ثم تَسبّب المؤتمر الصحفي الذي عقده برنانكي بعد الاجتماع التالي للجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في التاسع من حزيران (يونيو) في زيادة الارتفاع في سعر الفائدة على السندات لعشرة أعوام، لكي تبلغ 2.5 في المائة في الأول من تموز (يوليو) ثم إلى 2.92 في المائة قبل اجتماع البنك في أيلول (سبتمبر) مباشرة.
باختصار، كانت السوق تتوقع بوضوح أن يبدأ الخفض التدريجي في أيلول (سبتمبر)، وأن شراء الأصول سينتهي بحلول منتصف عام 2014م. وهناك على الأقل ثلاثة أسباب محتملة لهذا التحول الدرامي الذي طرأ على تحركات البنك وتوجيهاته فيما يتصل بسياساته.
لعل أحد الاحتمالات، أن برنانكي وغيره من قادة لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، خاصة نائبة رئيس اللجنة جانيت يلين، ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بل دودلي؛ لم يكن في نيتهم قط البدء في خفض المشتريات تدريجيا.
ويبدو أن تصريحاتهم المبكرة كان الهدف منها مُجرّد طمأنة أعضاء اللجنة الذين كانوا راغبين في إنهاء برنامج التيسير الكمي إلا أن القيادات تنصت إلى حججهم وتتعامل معها بجدية.
والواقع أن هذا التحرك منع معارضي التيسير الكمي من التصويت ضد موقف غالبية أعضاء اللجنة، الأمر الذي كان يوحي بحالة من الفوضى السياسية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي وافتقار برنانكي إلى الاحترام الواجب.
وإذا كان هذا التفسير صحيحا، فبوسعنا أن نتوقع من قادة البنك أن يستمروا في العمل ببرنامج شراء الأوراق المالية الطولية الأجل غير منقوص إلى العام المقبل.
والتفسير المحتمل الثاني، هو أن برنانكي وغيره من قادة بنك الاحتياطي الفيدرالي ربما كانوا يعتزمون حقا البدء في الخفض التدريجي لبرنامج التيسير الكمي في أيلول (سبتمبر)، لكنهم انزعجوا إزاء السرعة التي ارتفعت بها أسعار الفائدة الطويلة الأجل في استجابة لتصريحاتهم السابقة.
وقد تحدث برنانكي عن دهشته في هذا الصدد في مؤتمر حزيران (يونيو) الصحفي، عندما كانت أسعار الفائدة قد ارتفعت بنحو 50 نقطة أساس فقط. وبحلول أيلول (سبتمبر) ارتفعت أسعار الفائدة بنحو 125 نقطة أساس، إلى ما يقرب من 3 في المائة. ومن الواضح أن الأسواق لم تكن مُقتنِعة بتصريحات برنانكي بأن الوتيرة الأبطأ لشراء الأصول ستظل تشكل سياسة نقدية متساهلة، وبهذه الطريقة يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي قد حقق بالفعل ارتفاعا كبيرا في أسعار الفائدة دون الاضطرار إلى خفض التيسير الكمي.
وحتى لو كان الاقتصاد نشطا وقويا، فإن هذه الزيادة من شأنها أن تثبط سوق الإسكان وغير ذلك من الأنشطة الحساسة لأسعار الفائدة الطويلة الأجل.
ولعل السيناريو الثالث، أن النشاط الاقتصادي كان في تباطؤ واضح، وبالتالي فإن وتيرة النشاط في المستقبل عُرْضَة لأسعار فائدة أعلى، والواقع أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في النصف الأول من عام 2013م كان 1.8 في المائة فقط، وارتفعت المبيعات النهائية بمقدار 1.2 في المائة فقط.
ورغم عدم وجود تقديرات رسمية للناتج المحلي الإجمالي للربع الثالث، فإن تقييمات القطاع الخاص لا تتوقع تسارعا في النمو، وهو ما من شأنه أن يضع الاقتصاد على مسار كفيل بأن يبقي على مكاسب الناتج لهذا العام عند مستوى أدنى من 2 في المائة.
فضلا عن هذا، فإن تدبير التضخم المفضل لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي كان أدنى كثيرا من هدف الـ 2 في المائة. وكان مؤشر الأسعار السنوي للإنفاق على الاستهلاك الشخصي، باستثناء الغذاء والطاقة، في ارتفاع لعدة أشهر بمعدل 1.2 في المائة فقط، وهو ما زاد من احتمالات الانزلاق إلى الانكماش.
وتشير كل هذه العوامل مجتمعة إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي من المرجح أن يستمر على وتيرة التيسير الكمي الحالية حتى نهاية هذا العام وإلى عام 2014م.
ورغم أن برنانكي أشار في مؤتمره الصحفي في أيلول (سبتمبر) إلى احتمال بداية الخفض التدريجي قبل نهاية عام 2013م؛ فإنه علّق هذا على شرط ارتقاء الأداء الاقتصادي إلى توقعات لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية. وإذا كان تفسيرنا لهذا أنه يعني أن أعضاء اللجنة لابد أن يعربوا عن رضاهم عن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي؛ فسوف ندرك أنه من المستبعد إلى حد كبير أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الخفض التدريجي لبرنامج التيسير الكمي هذا العام، لأن النمو لابد أن يتسارع إلى نحو 3 في المائة في الربع الأخير من العام.
لكن رغم أن كل هذا يشير إلى الاستمرار في شراء الأصول بالوتيرة الحالية إلى عام 2014م (وربما بعد ذلك)، فهناك سبب واحد ربما يبرر تنفيذ قدر ضئيل من الخفض التدريجي في كانون الأول (ديسمبر)، وهو أن بن برنانكي من المقرر أن يتقاعد في كانون الثاني (يناير).
وبما أنه قَدّم "السياسات النقدية غير التقليدية"، المُتمثِّلة في التيسير الكمي والتوجيهات التقدمية، فربما يرغب قبل تقاعده في إظهار نفسه وكأنه أعاد بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى مسار السياسات التقليدية، لكن خطوة منفردة في ذلك الاتجاه لن تخلف تأثيرا كبيرا في مستوى أسعار الفائدة ووتيرة النمو الاقتصادي. وما زلت أعتقد أن الفوائد المُترتِّبة على التيسير الكمي لم تعد كبيرة، وأن المستوى المتدني من أسعار الفائدة يدفع المستثمرين والمصارف إلى خوض مجازفات غير مرغوبة. وفي ظل هذه الظروف، يتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتحرك بسرعة لإنهاء برنامج شراء الأصول الطويلة الأجل.

* أستاذ الاقتصاد في جامعة "هارفارد"، والرئيس الفخري للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.
حقوق النشر: "بروجيكت سنديكيت".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي