عبد العزيز والرياض .. ارتفعت الشمس ولوّح الفارس بثوب النصر

عبد العزيز والرياض .. ارتفعت الشمس ولوّح الفارس بثوب النصر

وضع الملك عبد العزيز اللبنة الأولى لتأسيس المملكة العربية السعودية في الخامس من شهر شوال عام 1319هـ / 1902م وهي السنة التي استعاد فيها الرياض، في حين تعود جذور هذا التأسيس إلى 275 عامًا عندما تم اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - عام 1157 هـ / 1744 م، فقامت بذلك الدولة السعودية الأولى على أساس الالتزام بمبادئ العقيدة الإسلامية ثم جاءت الدولة السعودية الثانية التي سارت على الأسس والمبادئ ذاتها .
واستحضر الملك عبد العزيز في ذهنه المتقد مشروع البناء الحضاري لدولة قوية على منهج آبائه فأسس دولة حديثة انتشر الأمن في أرجائها مترامية الأطراف مرتكزة على حفظ حقوق الرعية بفضل التمسك بكتاب الله ـــ عز وجل ـــ وسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وامتد عطاؤها إلى معظم أرجاء العالمين العربي والإسلامي وكان لها أثر بارز في السياسة الدولية بوجه عام بسبب مواقفها العادلة والثابتة وسعيها إلى السلام العالمي المبني على تحقيق العدل بين شعوب العالم.
وبدأت رحلة الملك عبد العزيز نحو تحقيق هدفه من الكويت برفقة رجاله إلى الرياض بدءًا من عام 1308هـ / 1890م حين غادر الرياض وهو يفكر ويخطط للعودة إليها وإعادة تأسيس الدولة السعودية وجاءت محاولة استرداد الرياض عام 1318هـ / 1901م نتيجة لهذا العزم، ورغم أن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح إلا أنها زادته إصرارًا على العودة مرة أخرى لذلك قاد الملك عبد العزيز في ربيع الآخر عام 1319هـ مجموعة من أفراد أسرته ورجاله متجهًا بهم من الكويت إلى أطراف الأحساء، حيث قام بعدد من التحركات الناجحة بقصد تكوين قوة كافية لاسترداد الرياض وانضمت إليه في تلك الفترة أعداد من أفراد القبائل في المنطقة تجاوز عددهم الألفين في فترة امتدت نحو أربعة أشهر إلا أنه نظرًا لمضايقة الدولة العثمانية له ولأتباعه انفض عنه الكثير منهم ولم يبق معه إلا 63 رجلا من أقربائه ورجاله الذين خرجوا معه من الكويت ومجموعة مخلصة أخرى انضمت إليه خلال تحركاته التي قام بها أثناء المسيرة التي سبقت دخول الرياض.
بدأ الملك عبد العزيز في تنفيذ خطته لاسترداد الرياض في 21 من رمضان ووصل مع رجاله إلى مورد "أبو جفانا" يوم عيد الفطر ثم ساروا منه في الثالث من شوال متجهين إلى الرياض حيث وصلوا إلى ضلع الشقيب ـــ وهو ضلع يقع في جبل أبي غارب جنوبي الرياض ـــ وذلك في الرابع من شوال عام 1319هـ / 13 يناير 1902م.
وأبقى الملك عبد العزيز بعض رجاله عند الإبل والأمتعة لحراستها وليكونوا مددًا وعونًا له فيما لو احتاج إليهم وزودهم بالتعليمات والأوامر وكان من تعليماته التي ألقاها إليهم "إذا ارتفعت الشمس، شمس الغد، ولم يأتكم خبرنا فعودوا إلى الكويت وكونوا رسل النعي إلى أبي وإذا أكرمنا الله بالنصر فسأرسل لكم فارسًا يلوّح لكم بثوبه إشارة إلى الظفر ثم تأتوننا".
سار الملك عبد العزيز مع بقية رجاله إلى الرياض على الأقدام، يقول الملك عبد العزيز: "فنحن مشينا حتى وصلنا محلاً اسمه ضلع الشقيب يبعد عن البلد ساعة ونصفا للرجلي، هنا تركنا رفاقنا وجيشنا ومشينا على أرجلنا الساعة السادسة ليلاً وتركنا 20 رجلا عند الجيش والـ 40 مشينا لا نعلم مصيرنا ولا غايتنا ولم يكن بيننا وبين أهل البلد أي اتفاق".

الوضع السياسي الدولي
المتحسس لمجريات الأوضاع السياسية على المستويين الدولي والمحليّ التي كانت عليها شبه الجزيرة العربية، وبالأخص منطقة نجد وما حولها، سيلمس بعض العوالم التي أثرت في صقل موهبة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ونمو قدراته وتوجهاته وحسّه الواعي لمجريات الأحداث بما هيأه إلى حد ما، إضافة إلى عوامل أخرى ساعدت على تحقيق طموحاته الضخمة إلى الدرجة التي قصرت عنها همة غيره من معاصريه.
تفتحت عينا عبد العزيز على الدنيا، في الوقت الذي كان فيه العالم العربي والإسلامي، يموج بالصراعات الدولية والمحلية، حيث أصيب من زمن بعيد بحركة التفاف حوله من بعض الدول الأوروبية قادها البرتغاليون، عن طريق رأس الرجاء الصالح وتبعهم الهولنديون والإنجليز، منذ القران العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وترسخت أقدامهم بالمنطقة، بغرض الاستعمار، ونازعتهم دول أوروبية أخرى، ثم تنافسوا فيما بينهم أخيراً على الاستحواذ على أكبر قدر من تركة الرجل المريض، المتمثل في الدولة العثمانية، وتبنى بسمارك إمبراطور ألمانيا فكرة المسألة الشرقية" لإصلاح الدول والأقطار الأوروبية الخاضعة لنفوذ الدولة العثمانية، العمل على إعطاء الشعوب المسيحية حقها في الاستقلال.
وبلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها في عهد كل من السلطان سليم الأول (ت 926هـ / 1520م) وابنه السلطان سليمان القانوني (ت 974هـ / 1566م) حين استولت تحت راية الإسلام، على كثير من بلدان آسيا وشرق أوروبا، بما في ذلك شبه جزيرة البلقان حتى القرب من منبع نهر الدانوب، وشمل ذلك أقطار المجر، وصربيا، والبوسنة والهرسك، متوغلة في شمال إفريقيا، ابتداء من مصر حتى أقصى المغرب العربي، ومعظم شبه الجزيرة العربية ثم ما فتئ أن أخذ التدهور السياسي، والضعف الإداري، يتسربان إلى كيانها لعدة عوامل، ومما زاد من سرعة هذا التدهور، ما لحقها من انهزامات متتالية في كثير من الحروب التي نشأت بينها وبين بعض الدول المجاورة، كروسيا، والنمسا عقب أن تحالف ضدها القياصرة الثلاثة لكل من روسيا، وألمانيا والنمسا في برلين عام 1288هـ 1871م، وانضمت إليهم المجر. ثم تكتّلت بعض دول البلقان بمساعدة كل من اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، وغيرها، للوقوف ضدها، حتى بدأت تفقد أملاكها شيئاً فشيئاً.
عقد مؤتمر في برلين عام 1295هـ/1878م، ضم كلاً من ألمانيا، وإنجلترا، وروسيا، وفرنسا، وإيطاليا، والنمسا، والدولة العثمانية، بغرض بحث المسألة الشرقية. كانت بريطانيا قد عبرت من قبل إلى الهند، وأسست شركة الهند الشرقية عام 1009هـ/1600م، وجهدت في تقويض نفوذ البرتغاليين، ثم الهولنديين، وتفردت بنصيب الأسد، وأخذت تعمل على احتلال الموانئ، وإنشاء المستعمرات لحماية طريق مواصلاتها إلى الهند، فاحتلت عدن عام 1255هـ/1839م، ومصر عام 1300هـ/1882م، وأصبحت لها السيطرة البحرية في كل من البحر الأحمر، والخليج العربي، كما احتلت العديد من المناطق في شتى بقاع الأرض، حتى أطلق عليها الإمبراطورية التي لا تغرب عن ممالكها الشمس.
وسط هذا الجو المشحون بالنزاعات والصراعات السياسية، المتناثرة تفاعلات أحداثه في سماء المنطقة، كان وقع تلك الأحداث المتتالية، يُسمع واضحاً في سماء الكويت، ويتردد في محافلها، خلال الفترة التي أقام فيها عبد العزيز مع والده الإمام عبد الرحمن، فغرست في نفسه – منذ الصغر – الدراية والحسّ الواعي بشؤون السياسة الدولية، ومعايير التوازنات بين القوى العالمية والمحلية، ولذا كان بارعاً في التعامل معها بمختلف اتجاهاتها، في المستقبل، بل إنه وظّفها فيما بعد لخدمته بصورة جيدة. وأسلوب صادق في التعامل، بعيداً عن ألاعيب السياسة المتدنية.

الأكثر قراءة