الثقوب السوداء في سوق العمل

امتداداً للمقال السابق ''علاج الطفح لا يشفي سرطان العمق''، ''الاقتصادية'' العدد 7264، واستمراراً للإجابة عن سؤال: ماذا يعني لنا كل ما أعلنتْ وتعلن عنه وزارة العمل من فترةٍ إلى أخرى عن إنجازاتٍ لم يسبق لها أنْ تحققّت؟ وهل المؤدّى النهائي من كل ذلك أنَّ وزارة العمل أنجزتْ أم لم تُنجز؟
لم ولن تقف المخاطر من عدم تحقق أهداف وزارة العمل عند ما أشرتُ إليه في المقال السابق، فما تبيّن مما أثبتته الإحصاءات الرسميّة ليس إلا عوداً صغيراً في أكوام الحطب! كُتب وقيل الكثير عنها طوال أكثر من عامين مضيا، على أمل أنْ نجد أذناً صاغية من لدن تلك الوزارة، بل لقد وصل إلى النقاش المباشر مع كبار مسؤوليها، سواءً عبر اللقاءات المتلفزة أو ورش العمل التي عقدتْ من قبل الوزارة، كان أبلغ ردٍّ تلقّيته شخصياً من أحدهم أمام أكثر من 20 مشاركا في إحدى ورش النقاش، بعد حديثي معه عن الآثار السلبية والخطيرة لما تقوم به الوزارة في الوقت الراهن، وإثبات ذلك بنفس أرقام شرائح العرض التي أعدّتها الوزارة، ليأتي الرد منه شفهياً: لم أفهم، لم أستوعب، لم أقتنع! احتوى علامات الدهشة التي علتْ وجوه الجميع بطلبه إرسال مداخلتي إليه عبر الإيميل.
اجتمعتْ نتائج كل ما تقدّم في تخوم ما نعايشه جميعاً من احتفالاتٍ وضجيجٍ على سطح سوق العمل الآن، في حين اندسّتْ ''الثقوب السوداء'' في أعماق السوق، تبتلع الأخضر واليابس دون أدنى أذى، والله المستعان على طوفانها الهائج إذا أتى مستقبلاً.
أدخلُ الآن في صلْبِ تلك الثقوب السوداء المندسة في الأعماق. كما أصبح معلوماً أنَّ اقتصادنا عبر مراحل من التقلّبات الاقتصادية حتى وصل إلى هيئته الراهنة، لعل من أبرزها وهو ما يهمّنا هنا في سياق الحديث عن سوق العمل المحلية، الاعتماد الكبير على دخل النفط وضعف تنوّع القاعدة الإنتاجية، أشرتُ إلى أبرزها في المقال الأخير: أنَّ نسبة الصناعات التحويلية الأخرى غير تكرير الزيت لم تتجاوز طوال 43 عاماً سقف 11.9 في المائة حتى نهاية 2012م، وأنّ الاعتماد على النفط كمصدرٍ شبه وحيد للدخل لم يتنازل طوال تلك العقود عن تسعة أعشار إيرادات الحكومة، بلغتْ نسبتها 92 في المائة في ميزان الإيرادات الفعلية 2012م، وبلغت نسبة الصادرات النفطية إلى إجمالي الصادرات السعودية 87 في المائة بنهاية 2012م، فيما لم تتجاوز نسبة الصادرات المصنّعة منها سقف 9.0 في المائة حتى نهاية 2012م، في المقابل زادتْ احتياجات الاقتصاد المحلي من الواردات إلى 583.5 مليار ريال بنهاية 2012م، أي 3.1 أضعاف صادراتنا المصنّعة.
يحقُّ هنا أن يتساءل المرء؛ إذا كانتْ هيكلة اقتصادنا كما هي أعلاه، ماذا يفعل نحو 9.8 مليون عامل في سوق العمل المحلية ''منهم 7.5 مليون عامل مقيم''؟!
أفرزتْ هيكلة الاقتصاد المحلي أعلاه سوق عمل وتحديداً في القطاع الخاص، من أبرز سماتها: (1) انخفاض الإنتاجية. (2) وظائف متدنيّة المهارات والتعليم والتأهيل: نحو 6.7 مليون وظيفة، تشكّل 79 في المائة من مهن القطاع الخاص، شكّل السعوديون من مجموعها 7.8 في المائة بنهاية 2012م. (3) وظائف متدنية الأجور قياساً على تدنّي مهاراتها: تراوحتْ أجور الوظائف المشار إليها في الفقرة (2) بين 490 ريالا شهرياً و1927 ريالا شهرياً. (4) تضاؤل الوظائف الملائمة للسعوديين قياساً على ارتفاع مؤهلاتهم التعليمية، إذْ لم تتجاوز في مجمل السوق 1.2 مليون وظيفة ''شكّل السعوديون منها 21 في المائة، وغير السعوديين 79 في المائة''.
أمام السمات الرئيسة أعلاه لسوق الوظائف في القطاع الخاص؛ في رأيك أين تركّزتْ عينا مسؤولي وزارة العمل؟! ستجد الإجابة الشافية في بيانات وتصريحات وتقارير الوزارة، لقد تركّزتْ على الفقرتين (2 و3)! لماذا؟ لأنّهما وفقاً لمعيار السعودة المعتمد فقط على الوزن العددي دون وزن الأجور، هما ''المسرح المرئي'' لتحقيق المنجزاتْ السريعة.
حسناً؛ ما المشكلة في ذلك؟ أردُّ موضحاً أنّها أُم المشاكل، وصلب الثقوب السوداء وفقاً للنقاط التالية:
(1) أنّ أغلبية تلك الوظائف ''المزرية مهارياً وأجوراً'' ليستْ في حقيقتها إلا إفرازاً لتشوهاتْ الاقتصاد! ولو أنَّ المعالجة الكليّة التي اُقترحتْ للاقتصاد الوطني رأتْ بصيصاً من النور، لقُضي تماماً على جزءٍ كبير من تلك الوظائف المزرية، ولعل من أخطر ما أفرزها الانتشار المفرط لنشاطات التستر. سيأتي من يقول: ولكنّها مهنٌ لا بد لأي مجتمع أن تتوافر فيه، وأقول له: نعم هي كذلك، ولكن ليس بهذا العدد المبالغ فيه! فما حدث لاحقاً أنَّ نطاقاً واسعاً من تلك المهن تحوّل إلى كارتلات تجارية ضخمة للمقيمين النظاميين وغير النظاميين، البائع والمشتري في معادلتها غير سعودي.
(2) توجّهتْ وزارة العمل نحو حشر السعوديين والسعوديات في تلك الوظائف المزرية من حيث المؤهلات اللازمة لها ''ابتدائي فما دون''، على الرغم من أنّ رصيد العاطلين ''أكثر من 1.54 مليون عاطل'' والمتقدمين سنوياً ''أكثر من 226 ألف خريج''، يُشكّل حملة الشهادة الثانوية منهم أكثر من 70.2 في المائة! فأيُّ هدْرٍ كوارثي وقعنا فيه ها هنا؟! هدرٌ على تعليم تلك الأجيال، وهدرٌ على حشرهم في وظائف لا تسمنهم ولا تغنيهم من جوعٍ أو فقر، وهدرٌ لطاقة وإنتاجية الملايين من المواطنين بحرمان اقتصادنا منها بعيداً عن تنويع قاعدته الإنتاجية، وتكريساً لأنشطةٍ ومهنٍ تزيد من اعتمادنا على الاستيراد الاستهلاكي، وبقية المتوالية الريعيّة التي لم نخرج من دوّامتها لأكثر من أربعة عقودٍ مضتْ.
(3) من آثار ما تقدّم ذكره؛ أنْ تحوّل ويتحوّل العاطلون المدفوع ثمن تعليمهم باهضاً إلى عمّالٍ محدودي الدخل أو قل فقراء، وفوق ذلك أنّها وظائف لا تقدّم للاقتصاد إلا نقصاً في الإنتاجية، وزيادةً في الاستيراد والاستهلاك.
(4) أخيراً وليس آخراً، بيّنتُ في مقالٍ سابق ''هل برامج السعودة عمياء؟'' نشر هنا في ''الاقتصادية'' العدد 7147 إثر قرار رسوم السعودة وفقاً لآليته القاصرة، أنّه سيساهم في ارتفاع الأسعار أكثر من ارتفاع السعودة، وتأتي سياسة وزارة العمل الآن للقضاء على التستر وتشجيعها لنشاطات شركات الاستقدام؛ عبر ابتلاع تلك العمالة المُتستر عليها في بطون تلك الشركات، ومن ثم تأجير خدماتها للمستفيدين، لتؤذن بمزيدٍ من ارتفاع الأسعار، وتكرّس في الوقت ذاته لاستدامة تشوهات الاقتصاد، أقلَّ ما يمكن قوله عن تلك الإجراءات: أنّها خطوةٌ أخرى لتغذية الثقوب السوداء في أعماق اقتصادنا، قبل أن تستقر في رحم سوق العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي