Author

5 ملايين مواطن دون جرّاح قلب

|
اتصل بي أخي يبلغني بإصابة أحد الأقارب بعارض صحي أدخله المستشفى، الرجل في العقد الخامس وبصحة كنا نراها جيدة، ومنضبط في سلوكه وعلاقاته. توجهنا بسرعة لنجد قريبنا في قسم عناية القلب. كان أخي يقص علينا ما حدث مع الرجل إثر تعرضه لنوبة من الغثيان والألم في صدره. توجه إلى أقرب مستوصف خاص، حيث أجري له تخطيط القلب، فأثبت أن هناك مشكلة لا يستطيع المستوصف أن يتعامل معها، واقترح عليه أن يذهب لمستشفى أحد رفيدة، حيث تم عمل تخطيط آخر واكتشف المشكلة نفسها، وأوصى المريض بالتوجه لمستشفى خميس مشيط العام. يعرف قريبنا مستوى الطب في مستشفى الخميس، فطلب من الطبيب المعالج أن يزوده بأسطوانة أوكسجين ليستخدمها، بينما يتوجه إلى مستشفى عسير المركزي. رفض الطبيب المعالج أن يعطي المريض الأسطوانة باعتبارها ''عهدة''! لكن أحد العاملين في المستشفى شاهد المنظر وعرض أن يأخذ بطاقة الهوية الوطنية كرهن حتى يعيد المريض الأسطوانة، فما أغلى الأسطوانة وأرخص المريض، الذي هو ''أولاً'' في أدبيات الوزارة التي تقام من أجلها المعارض والمؤتمرات، لكنه لا يراها مطبقة في الواقع. مستشفى عسير المركزي ''لمن لا يعرفه'' هو أحد المستشفيات الخمسة الكبار. أي أنه يفترض أن يقدم كل مستويات العلاج الطبي لمناطق عسير وجازان ونجران، ولا أدري إن كانت الباحة ضمن منطقة مسؤوليته. هذه المناطق الثلاث يسكنها ما يقارب خمسة ملايين نسمة. في دولة تنفق على الخدمات الصحية ما يقارب 200 مليار ريال سنوياً، هذه الإحصائيات سنحتاج إليها بعد قليل. توجه الرجل بآماله وآلامه إلى المستشفى ''الأمل''. حيث يعمل طاقم من الأطباء السعوديين والأجانب وأساتذة كلية الطب في جامعة الملك خالد. كان على يقين أنه سيحصل على العلاج المأمول هنا. استقبله قسم الطوارئ وكافح ابنه لنقله إلى المنطقة الحمراء لينال الاهتمام الضروري لحالته. تم ذلك، وما إن فحصه الطبيب حتى أحاله إلى قسم تخطيط القلب، واكتشف أنه يعاني انسداد ثلاثة شرايين تستدعي التدخل الجراحي. وهنا تكمن المشكلة! اعتذر الطبيب بأنه لا يوجد في المستشفى المركزي أي طبيب تخصصه جراحة القلب. لا أزال في دهشة كبيرة من هذا الخبر الذي نزل على صاحبي وعلينا جميعاً كالصاعقة. اقترح الطبيب على المريض أن ينقل إلى المستشفى التخصصي أو مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض على بعد ألف كيلومتر أو المستشفى العسكري في الخميس، ولمن لا يعرف المستشفى العسكري في الخميس فهو يعادل 10 في المائة من حجم مستشفى عسير المركزي، ومع ذلك يوجد فيه طبيب تخصصه جراحة القلب. لم تنته المفاجآت هنا، أخبر أحدهم المريض بأن هناك جراح قلب ممتاز في المستشفى العسكري بالخميس، فرح الجميع وطلبوا أن ينقل ملف المريض ليجري له الطبيب المعروف بكفاءته العملية. لكن مسؤولي المستشفى أفادوهم بأن الطبيب المطلوب حصل على عقد عمل في الإمارات، وغادر منذ فترة. فماذا يفعل مواطن مسكين في حالة كهذه؟ وكيف تتحمل أمه وزوجته وأطفاله أن يغيب عنهم لشهرين في منطقة بهذا البعد؟ لكن كل هذا يهون أمام سؤال ألح به أحدهم على الطبيب المعالج، عندما قال له لنفرض أنه جاء مريض يحتاج عملية قلب مفتوح فورية وإلا سيموت؟ طبعاً الجواب: ندعه يموت! أصبحت أشك اليوم في مسلسلات أمريكية نرى أطباء الجراحة ينفذون فيها عمليات القلب المفتوح في غرف الطوارئ، على أنها محض كذب وافتراء وترويج للسلعة الأمريكية الكاذبة، فجراح القلب في وطني لا يوجد إلا في مدن محددة. لكنني أيقنت أننا في عالم بعيد كل البعد عن المعدلات العالمية في مجال الصحة بالذات، فالأمريكان يشكون من وجود طبيبين اثنين فقط تخصصهما جراحة القلب لكل 100 ألف مواطن. يا عيني ونحن عندنا خمسة ملايين دون طبيب واحد. كنت دوما أنتقد أولئك الذين يتقاعدون ويعيشون في مدن كبيرة كالرياض وجدة خصوصاً. كان كثير منهم يبرر ذلك بوجود الخدمات الصحية المتقدمة والجامعات والدوائر الحكومية. فأين خطط التنمية التي نعيش اليوم في العاشرة منها. أين الوزارات ''وأهمها الصحة'' من أوامر خادم الحرمين التي حددت ألا تكون هناك مناطق نائية أو بعيدة عن الحضارة والخدمات. أين مفهوم توازن التنمية. لماذا يضطر أي مواطن لمغادرة منطقته ليراجع معاملة في وزارة أو يحضر موعد طبيب عيون أو يضطر إلى تحمل وعثاء السفر ليجري جراحة تنقذ حياته. أعتبر هذا الأمر جريمة في حق المواطن والوطن. فطبيب من أفضل الجراحين سيكلف المستشفى مليون أو مليوني ريال بمساعديه وأدواته، بينما توزع الأدوية بين الأصحاب والأحباب، ولا يجدها المحتاج رغم أن الدولة تصرف عليها أكثر من 11 مليار ريال. فلو قدرنا أن ميزانية المستشفى تصل إلى مليار ريال في السنة وهو رقم متواضع بالنسبة لمستشفى عسير المركزي، فأغلب الظن أن توزيع الميزانية لن يعيق التعاقد مع طبيب في كل تخصص يمكن أن يمر على المستشفى. على أن هناك من الملاحظات الكثير، لكن هذه الملاحظة مؤلمة ومهينة للوطن ولوزارة الصحة وللمواطن. تذكرت هنا أن الجراح السعودي حسان رفه أجرى أكثر من 50 ألف عملية قلب مفتوح مجاناً في دول إفريقية ليس لدى سكانها القدرة المالية على الحصول على العلاج في بلادهم. فهل نتقدم بمعروض للدكتور حسان ليضيف مستشفى عسير المركزي لدائرة العمل الخيري الذي يمارسه في هذا المجال، بما أن الأقربين أولى بالمعروف؟
إنشرها