Author

منشآتنا الصغرى .. في مهب الريح

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
شهد قطاع الأعمال في السعودية عبر أكثر من أربعة عقودٍ مضتْ ما يُشبه الذوبان التدريجي في رصيد أغلبية سياسات وبرامج دعم المنشآت المتوسطة والصغرى الناشئة، لدرجةٍ توقفت عن شرايينها الدماء النابضة بترياق الحياة، ووصلتْ إلى حدود الهلاك وسوء المنقلب. انقطع ذلك الترياق الداعم في أغلبية الحالات عن الجيل الأخير من تلك المشاريع والصناعات الناشئة، التي كأنها جاءت في الوقت الضائع، ولتصطدم لسوء حظّها بالكثير من العقبات والتحديات الجسيمة؛ تناوب على تركها ونسيانها في الطريق المنتهي بالفشل والإفلاس حتماً؛ كلٌ من خفوت أو انعدام دعم ومساندة القطاع الحكومي من جهة، ومن جهةٍ أخرى زيادة الضغط والمنافسة المتأتية من ديناصورات قطاع الأعمال التي كانتْ أقل شأناً في بدايتها، وأقل منها خبرة وكفاءة. لا شك أن الصورة الراهنة التي تعيشها المنشآت المتوسطة والصغرى الناشئة اليوم مغايرة تماماً للصورة "المدللة"، التي تمتع بها أسلافها في الحقبة الأولى من عهود التنمية، فأقل ما يمكن قوله بخصوص الأوضاع الراهنة لذلك القطاع الحيوي المهم من قطاعات اقتصادنا المعاصر، إنها تمر في نفقٍ "مختنق" من جهتين؛ الجهة الأولى: البيروقراطية الحكومية التي تتضاعف إجراءاتها ومتطلباتها وقيودها يوماً بعد يوم، "داخ" منها عقل رجل الأعمال المبتدئ وتاه في دوامتها، فمنهم من قضى هو ومشروعه الضئيل الحجم نحبه، وهم الأغلبية، ومنهم من خرج بمعجزة من عنق الزجاجة! ومن الجهة الأخرى: المواجهة الشرسة مع الشركات والمنشآت الصناعية والتجارية العملاقة، التي سخّرت كامل قواها في استمرار المطالبة بالدعم وبالأنظمة والقوانين التي تتوافق مع مصالحها مرّةً، ومرّةً أخرى في المراوغة كراً وفراً للتهرب من الالتزام بأنظمة وقرارات الجهات الرسمية كقرارات السعودة، والسماح بالمنافسة التامّة، ومحاربة الاحتكار والتحكم غير المشروع في أسعار السلع والخدمات. وليس أمراً غير معلوم لدى قطاع الأعمال المحلي، أن تعددتْ وسائل وطرق تلك الكيانات التجارية العملاقة في تعاملها مع المنافسين الصغار الحجم؛ فقد تفنن "العمالقة" في احتوائهم مرة، وطردهم من السوق مرة أخرى، وغيرها من أساليب المواجهة "الفجّة" التي يصعب على أصحاب تلك المشاريع الصغيرة من رجال الأعمال المبتدئين أن يطالبوا قانونياً بحقوقهم المهدرة لقلة أو انعدام الخبرة والدراية بمعترك ساحات الوغى التجارية والصناعية. ينطلق الحرص والاهتمام بوجود هذا القطاع الحيوي من قطاعات الاقتصاد، ولتوفير أفضل الشروط لازدهاره ونمائه من أهمية وعمق الدور الذي يقوم به في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، من اعتباراتٍ عدة بالغة الأهمية، لعل من أبرزها حسبما أثبتته الدراسات الاقتصادية الحديثة: (1) قدرة تلك المنشآت على خلق الوظائف وتوطينها، بمعدلاتٍ أكبر من مثيلاتها الأكبر حجماً، ولانخفاض تكلفتها. (2) توسّع الفرص التي يتيحها تشجيع مثل هذه المشاريع الناشئة على احتضان وإعداد جيلٍ جديدٍ من رجال الأعمال الأكثر تأهيلاً وتعليماً، بما يخلق في الاقتصاد طوراً جديداً من النشاطات الصناعية والتجارية المبتكرة. (3) إن ازدهار تلك المشاريع سيؤدي إلى خلق فرصٍ جديدة للعمالة الوطنية، وتنويع القاعدة الإنتاجية، ورفع معدلات النمو الاقتصادي، وزيادة مستويات التنمية المستدامة. (4) المحصلة النهائية لكل ما تقدّم؛ المساهمة في خلق مزيدٍ من موارد الدخل الاقتصادي الكلي والجزئي، وإثراء وتعزيز القيم المضافة للاقتصاد. تنقسم المعوقات التي تواجه تلك المنشآت الناشئة إلى قسمين؛ قسمٌ يتعلق بالبيئة الداخلية، والقسم الآخر يتعلق بالبيئة الخارجية، فعلى مستوى المعوقات الداخلية التي تعترضها فإنها تكابد: (1) ضعف المهارات الإدارية: لخضوعها للنمط الإداري القائم على "المدير المالك" غير المؤهل، الذي يتحكم بجميع القرارات، على الرغم من افتقاره إلى الخبرة والدراية بطبيعة الحقل الإنتاجي الذي تعمل فيه منشأته الجديدة! (2) اتباع السياسات غير المخططة: لافتقار قراراتها الإدارية والإنتاجية والتسويقية وخلافه لأي دراساتٍ تخطيطية، ما أوقعها فيما بعد في مشاكل وتعقيدات غير محسوبة العواقب والتكاليف، انتهت إلى إفشالها وإسقاطها. اجتمعتْ أغلبية توصيات الدراسات حول تلك المعوقات الداخلية، على أن تقوم الجهات المعنية في القطاعين العام والأهلي بإيجاد المعاهد المتخصصة والمراكز التدريبية التي تسد تلك الثغرات الخطيرة، وزيادة فتح جسور التعاون مع الكفاءات العلمية في الجامعات المحلية، فما تقوم به الغرف التجارية والصناعية على الرغم من أهمية ما تم إنجازه حتى الآن، إلا أنه حسبما أظهرته النتائج الفعلية على أرض الواقع بالنسبة للمشاريع والصناعات المتوسطة والصغرى الناشئة المحلية، يُشير إلى عدم كفاية تلك البرامج والدورات والندوات التي تنظمها، وأن الأمر لا بد أن يرتقي إلى أكثر من ذلك بالصورة التي تتواءم مع حجم وواقع التحديات القائمة على هذا الصعيد! أما على مستوى المعوقات الخارجية فمن أبرزها ما يلي: (1) مشاكل التمويل: إذ لا توجد أي مرونة للحصول على القروض والتسهيلات المصرفية اللازمة لمشاريعها، بسبب عدم مراعاة البنوك لنوعية وطبيعة مثل هذه المشاريع المبتدئة، إضافةً إلى التعقيدات البيروقراطية التي يواجهها طلب الحصول على قروض من الصناديق التنموية الحكومية. (2) العلاقة المعقدة مع الجهات الحكومية: تعاني تلك المنشآت من علاقتها مع كثيرٍ من الجهات الحكومية كالجمارك، ومكاتب العمل، ومكاتب الاستقدام، والدفاع المدني، وأغلبية الجهات الرسمية التي يتطلب الأمر في أحيان كثيرة الحصول على تراخيص نظامية منها، وطول الوقت الذي يحتاجه أو يهدره من أجل استيفاء تلك المتطلبات المعقدة والإجراءات الشاقة والطويلة. (3) المعوقات المتعلقة بتسويق منتجات وخدمات هذه المنشآت الناشئة داخل البلاد وخارجها، وصعوبة منافسة السلع أو الخدمات المماثلة في السوقين المحلية والخارجية. (4) عدم استفادة تلك المنشآت من المعلومات المتوافرة عن الأسواق التي تعمل فيها، إما لصعوبة الوصول إليها، أو لتكلفتها الباهظة، أو لجهل أصحابها المبتدئين، أو لعدم وجود تلك المعلومات والبيانات في الأصل. يحق لنا هنا أن نتساءل: هل تمكنت تلك المنشآت الناشئة من المرور عبر عنق الزجاجة قبل هذه التحديات الجسيمة الراهنة والقادمة، حتى تتمكن من المرور مستقبلاً بعد أن ضاقت عليها الأرض بما رحبت؟! لعل مزيداً من المرونة، وتقديم التفكير في الفائدة المأمولة من نمو هذه المنشآت على مخاطر تمويلها يغيّر كثيراً من خريطة ما يجري الآن! ولعل ما سأطرحه في المقال القادم حول مشروع تأسيس بورصة للمنشآت الصغرى والمتوسطة ما يخدم هذا التوجّه.
إنشرها