المرور ومسؤولية الحوادث القاتلة

أمس القريب، ذهب ثلاثة شبان من عائلة واحدة ضحية حادث مروري مُروِّع. وقبلها بيومين كان قد توفي قريب لهم في حادث مشابه. ومنذ أسبوعين خمسة شباب فقدوا أرواحهم في حادث أليم. بل لا يمضي يوم واحد دون أن يموت أكثر من خمسة عشر إنسانًا في المملكة من جراء الحوادث المرورية، حسب الإحصاءات الرسمية. وكم فقدنا من فتيات في ريعان شبابهن وهنَّ في طريقهن قبل بزوغ الشمس إلى القرى النائية من أجل كسب العيش وتعليم فلذات الأكباد؟ فعدد ضحايا حوادث المرور عندنا يفوق عدد ضحايا الحروب الطاحنة، وكأننا نعيش وسط معركة مستمرة لا تُبقي ولا تذر. فهل عجزنا عن اتخاذ الوسائل التي هي في متناول أيدينا حتى نتغلب على هذا العدو الشرس الذي يترصدنا ليل نهار؟ نتمنى لو نسمع من مسؤولي المرور إعلان عجزهم عن القيام بواجباتهم حتى نتمكن من البحث عن البدائل. أما قبول الأمر الواقع وانتظار الضحية التالية في كل لحظة، فهذا أمر لا يليق بنا، وقد منحنا الله عقولاً نفرق بها بين ما هو مقبول وغير المقبول. ونستطيع أن نحكم بما لا يدع مجالاً للشك بأن معظم الحالات التي تحدث فيها وفاة أو إعاقة، إن لم تكن كلها، كانت تفتقد عنصر ربط الحزام. وجربوا تقتنعوا!
ولا يختلف اثنان، من غير منسوبي المرور، على أن مؤسسة المرور هي المسؤول الأول عن إيجاد حل للحد من الحوادث المرورية التي تتسبب في موت ما يزيد على سبعة آلاف بَنِي آدم سنويًّا، إضافة إلى مئات الألوف من الجرحى والمصابين والخسائر المالية التي تُقدَّر بعشرات المليارات. ولا أحد يُحرك ساكنًا، وكأن الأمور تسير على ما يُرام! لا نشاهد برامج تنويرية وتوعوية وتثقيفية فعالة على أي مستوى ولا رقابة تساعد على الحد من التهور والسرعات الجنونية ولا تُشجّع على استخدام وسائل السلامة المرورية. إذا كان هذا لا يعني إدارة المرور، فمَن الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن نتائج حوادث المركبات التي تكتظ بها طرقاتنا وشوارعنا؟! وهل أصبح واجب رجال المرور مُنحصرًا فقط في إخراج الموتى من داخل المركبات وإرسال رسائل إلى مراكز الإسعاف من أجل نقل المصابين ومعالجتهم؟ لا نظن ذلك! فمن صميم واجباتهم أن يبحثوا عن حل لتقليل الإصابات، وعليهم أن يتحملوا المسؤولية كاملة ويقوموا بواجبهم على الوجه المُرْضي. ونحن ندرك جيدًا أنهم لا يملكون ولا الجزء اليسير من الإمكانات البشرية و''اللوجستية'' التي تمكنهم من أداء الحد الأدنى من الواجب. وهذا ليس خافيًا علينا، ولكنه، في الوقت نفسه، لا يعطيهم عذرًا بأن يتركوا الأمور على هذا الوضع المتردي. وعليهم أن يطلبوا وبكل إلحاح من مراجعهم مدهم بجميع ما يحتاجون إليه لإيقاف هذا النزيف المخيف من دماء البشر والنكبات الإنسانية التي يعانيها ذوو الموتى والمصابين. ونحن لا نشك على الإطلاق في أن المسؤولين سوف يتجاوبون مع أي طلبات يكون مؤداها إلى الصالح العام.
وليس سرًّا أن ضحايا الحوادث في بلادنا والخسائر المادية التي يتكبدها اقتصادنا من جراء الحوادث المرورية تفوق بكثير المعدلات العالمية، وهذا لا يدعو إلى الفخر. بل من عجائب الأمور أن الحل الأمثل موجود ومعروف لأهل الاختصاص. وإنما هو عدم المبالاة بأرواح البشر التي تُزهق تقريبًا كل ساعة من ساعات الليل والنهار. فواجع تحدث هنا وهناك في جميع ربوع البلاد، حتى أصبح الحديث عن موتى حوادث الطرق أمرًا عاديًّا ومُسلَّما به وكأننا مكتوفو الأيدي لا نعرف ماذا نفعل. مع أن الأمر بسيط ولا يحتاج إلى أكثر من إرادة وتصميم وتخطيط سليم. والثروة الكبيرة التي أوجدت لنا هذا الكم الهائل من المركبات لا تعجز عن دعم جهود المخلصين من رجالات المرور بكل ما يحتاجون إليه، بما في ذلك الحاجة إلى التدريب ومضاعفة القوى البشرية وتوفير المعدات اللازمة. ابعثوا رجالكم إلى الدول المجاورة التي استطاعت التغلب على زيادة معدلات الحوادث المرورية القاتلة. ثم اجعلوا لكم أهدافًا سنوية يقومون بموجبها بتقليص عدد الوفيات والإصابات البليغة بنسب معينة قابلة للتحقيق. لماذا لا نبدأ بتعليم وتثقيف وتدريب رجال المرور أنفسهم ليكونوا قدوة في الانضباط. ارفعوا من مهاراتهم عن طريق التدريب المكثف. ونحن لدينا مئات الألوف من الشباب العاطل عن العمل ولديه مستوى لا بأس به من الوعي والتعليم. لماذا لا نعطي هؤلاء الشباب فرصة للعمل في سلك الأمن والمرور، وهما بحاجة إلى دعم بشري. وإذا لم نستطع صرف المال اللازم اليوم من أجل إنقاذ حياة الآلاف من المواطنين، ونحن نعيش زمن الفوائض المالية الضخمة، فمتى يكون ذلك؟ والفريد في الموضوع، أن هناك مردودا ماليا كبيرا على أي مبالغ تُصرَف على منع الحوادث المرورية القاتلة، أي أنها ستجلب لنا توفيرًا ماليًّا إلى جانب المكاسب الإنسانية. وقد ذكرنا في مناسبات سابقة أن أبسط الأمور التي ستساعد كثيرًا على تقليل عدد وفظاعة الإصابات إجبار رُكَّاب المركبات على ربط حزام الأمان، ومعاقبة المخالفين عقابًا رادعًا. لأن مثل هذا الإجراء يصب قبل كل شيء في مصلحة المواطن. وتنفيذه لا يحتاج إلا إلى قرار ومتابعة، فلا تدريب ولا مشقة ولا تكلِفة مالية، ونتائجه فورية. والكثيرون منا شاهدوا تطبيقه بدقة في معظم دول العالم المتحضر. حزام الأمان، هو حل جزئي، ولا يمنع وقوع الحوادث. ولكنه ـــ بإذن الله ـــ يقلل من شدة الإصابات بنسبة تصل إلى 70 في المائة، وهو لا يكلفنا إلا حركة بسيطة لربطه والاقتناع بأهميته.
ونحن لا ننكر أن مسألة بهذا القدر من الأهمية، وهي الحفاظ على أرواح أفراد المجتمع، تحتاج إلى تضافر الجهود من أطراف متعددة، مثل الدفاع المدني ووزارة التربية والتعليم المسؤولة عن بث الوعي الاجتماعي في روح المجتمع ووزارة الصحة ووزارة المالية ووزارة المواصلات والشركات الكبرى مثل أرامكو وسابك وأطراف أخرى. ولكن مسؤولية التنظيم والتخطيط والتنسيق والتنفيذ تقع على عاتق إدارات المرور في كل منطقة. ولا نعلم كيف تنأى إدارة المرور بنفسها عن إيجاد حل يساعد على التقليل من إراقة الدماء على ساحات الطرق بسبب حوادث المرور. ونظن أن المبالغ الخيالية التي يكلفها ويكسبها نظام ساهر، لو أنها صُرِفت على زيادة عدد رجال المرور ومعداتهم وعلى تطوير مهاراتهم لكان المردود أكثر فاعلية وأجدى على المدى البعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي