Author

حروب الجيل الرابع (2 من 2)

|
تحدثت في الجزء الأول عن حروب الجيل الرابع التي بدأت تعتمدها الكثير من الدول الكبرى في سبيل ضمان بقاء تفوقها وسيطرتها وإحاطتها بكل عناصر التفوق التقني والمادي واستغلال الفرص، للحصول على مكاسب مادية أو سياسية دون التعرض لعداء الجمهور أو تحمل الكثير من التكاليف التي تأتي مع احتلال الأرض ودخول العناصر العسكرية. هذه الحروب غير النمطيةAsymmetrical Warfare هي ما نواجهه اليوم، ونحتاج لتوعية كل مسؤولي الدولة والإعلام ومتخذي القرار في القطاع الخاص عن خطرها. لعل أهم أمثلة الحرب غير النمطية هو ما تم تنفيذه في هاييتي، حيث تم صرف مبالغ هائلة لإيجاد أو ترسيخ الثغرات القائمة بين مكونات الدولة تضمن الوصول إلى انعدام الكفاءة وسيطرة فئات محددة على ثروات البلاد، وترسيخ الكراهية بين مكونات الدولة، التي اعتمدت العنف وسيلة لحل النزاعات. خلال فترة طويلة تحولت أهداف كل الفرق والأحزاب نحو تدمير مخالفيهم بدل بناء الوطن، وبين عشية وضحاها سقطت الدولة، وأصبحت جاهزة للاحتلال المادي. عندها تمكنت الأيادي التي عملت في الخفاء من الظهور بمظهر المنقذ الذي لا يوجد في الساحة بديل له. العداء المؤدي لسقوط الدولة والعمل على استبدالها بما يلاءم الجهة أو الدولة أو الحلف الذي خطط وشنّ الحرب، هو نمط مكلف جدا، لكنه يضمن أن يتكون في الدولة حالة من العداء والتنافر يضمن ألا يقف الشعب في صف واحد، وإنما تسيطر عليهم الانتماءات مهما كان نوعها. هذه العملية طويلة الأجل، حيث تأخذ كما كبيرا من الوقت والجهد والذكاء والمال لتحقيق أهداف طويلة الأجل. يمكن النظر اليوم إلى العالم ومشاهدة نماذج كثيرة من عمليات إفشال الدول من خلال تدمير العلاقة بين مكوناتها، على أنه يمكن النظر إلى بعض النماذج التي تظهر جلية في دول مثل دول الربيع العربي وقبلها العراق، ودول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تترنح الدولة تدريجيا إلى درجة تفقد فيها توازنها وتصبح غنيمة لعنصر أجنبي. يؤكد منظرو هذا النوع من الحروب أنه يمكن أن تستخدم طريقة تقويض الدولة حتى في حالة الدول ذات المستوى الاقتصادي والعلمي المرتفع، ذلك أن الهدف من كل العمليات هو النخبة، وتكوين التدافع بينها وضمان استمرار المواجهة التي تجذب الفئات الأقل حظا من الناحية الاقتصادية أو التعليمية. ولكن كيف تفشل الدولة؟ سؤال مهم جدا يجب أن يتم تداوله في مراكز صنع واتخاذ القرارات المصيرية. يذكر القرآن الكريم مفهوم فشل الدولة حرفيا فقد ورد في سورة الأنفال قوله تعالى: ''وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ''. النزاع والخلاف والفرقة والاستئثار بالرأي ومحاولة مصادرة الآراء المخالفة هي النزاع المذكور في الآية الكريمة. ولهذا يوضح أول الآية الوسيلة التي تمنع النزاع في قوله تعالى: ''وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ''، ثم يوضح الجزء الأخير ما يمكن أن يعمله المسلمون في حالة النزاع للخروج من الأزمة بقوله تعالى: ''وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ''. لن أدخل في تفسير الآية وأنواع الصبر، لكنني أردت أن أربط الموضوع بحالنا نحن كدول ومنظمات وهيئات ومجتمع ككل. ينتج عن النزاع ظهور أقطاب يجذب كل منها فئة من المجتمع، ومع استمرار الخلاف والفرقة تبدأ المجموعات في تكوين سيناريوهات عن الحال والمخاطر التي يمكن أن تقع عند تغلب فئة أخرى وسيطرتها على المشهد العام. ينتشر الخوف الذي تغذيه الجهات الراغبة في تدمير الدولة، ومع الخوف يبدأ التمترس وراء ما يراه الناس حاميا لهم كمجموعات أو أفراد. يسيطر عندها الحس الطائفي والمذهبية والمناطقية والفئوية، وتبدأ هذه الانتماءات في السيطرة على القرارات. تتقدم الحال بتغذية الأطراف الخارجية ليتحول إلى حرب مناصب تسيطر عليها محاولات السيطرة على القرار. يتحول المسؤولون في مواقع القرار إلى أدوات يستخدمها المنظرون لحماية حدودهم ومحاولة السيطرة على أكبر جزء ممكن من المشهد العام سواء كان اقتصاديا أو سياسيا بدوافع فئوية. يمكن أن تقع الدولة فيما يمكن أن نسميه الفشل الذاتي، وهو ما يحدث عندما تسيطر هذه المفاهيم بدون تدخل خارجي. إن التنازع الذي نراه اليوم في الكثير من الدول العربية قد لا يكون جزءا من مخطط دولي، وإنما جزء من النرجسية وحب الذات والرغبة في السيطرة على الآخرين لأي سبب من الأسباب، ولكننا لا يمكن أن نهمل التأثير الخارجي الكبير في عالم اليوم. ولهذا أطالب بأن يحصل كل المسؤولين على جرعة كافية من المعلومات التي توضح العلاقة بين الدولة ومكوناتها والمخاطر التي يمكن أن تقع نتيجة النزاع والخلاف وانتشار الخوف بين فئات ومكونات الدولة الرسمية والشعبية. يجب أن يتعرف كل مسؤول عن دور القطاع الذي يعمل فيه أو يرأسه في حماية الوطن من الكراهية والفرقة التي يسببها الخوف والطائفية وانعدام العدل الناتج عنهما. إن حماية مكونات الدولة تقع على عاتق كل المسؤولين مهما كان مستواهم، بدءا بالمعلم الذي يغرس مفاهيم الوطن وحبه وتماسكه، والأسرة التي تحافظ على أبنائها من الاندفاع نحو أي من الأقطاب الخطيرة في المجتمع. تتأثر الوحدة الوطنية بكل المكونات المؤثرة في المجتمع. يمكن أن نقول: إن قوة الروابط والوحدة في الوطن هي بقوة أضعف مكوناتها. فإذا كان الاقتصاد هو الأضعف فقوة الوطن هي بقوة الاقتصاد، وإذا كان التعليم أو الصحة هما الأضعف فإن الوحدة والتناغم الوطني هما بحجم ذلك الضعف. يأتي في السياق كل مكونات المجتمع التي يجب أن تضع كل الفئات في الخانة الوطنية نفسها، النظر لكل التجار والمراجعين، والمخالفين، والمستثمرين، والأغنياء والفقراء بالمنظور المحب والحامي والمهتم بمصالحهم كجزء من الخدمة العامة نفسها. إن فقدان تماسك أي جزء من هذه المنظومة الكبرى يؤدي إلى الترنح التدريجي. تشترط الكثير من دول العالم الحصول على دورات في الأمن الوطني لكل المسؤولين الذين يرشحون لوظائف الإدارة العامة. وهو ما يجب أن نفعله في المملكة كجزء من تأهيل كل مسؤولي الدولة وأقطاب القطاع الخاص، للتعرف على المخاطر المحتملة، وكيف يمكن أن تستغل من قبل الأعداء، وطرق الحماية للوحدة الوطنية، وضمان استمرار ولاء كل المواطنين.
إنشرها