وزارة الصحة: إنشاء جهاز للمراجعة الداخلية جزء من الحل

لقد مر زمن كنا نفتخر بما وصل إليه الشأن الصحي في المملكة وأصبح لزاما علينا اليوم أن نكون أكثر فخرا ونحن نمر بهذا الإزهار في كل مناحي الحياة وخادم الحرمين الشريفين يعلنها مع كل ميزانية "لم يعد لكم عذر". كان لا بد أن يكون الوضع أفضل بكثير، لكن بدلا من ذلك ها نحن نجاهد الخوف في أنفسنا ونحن نقنع الوالد أو الولد أو عزيز لدينا لنحملهم إلى أي مستشفى أو مستوصف. ولم يعد لدينا اليوم ما نكتبه عن مشاكلنا وتجاربنا المريرة مع المستشفات والطب والأطباء والمواعيد، ذلك أن كل التجارب مع مرارتها لم تعد شيئا يذكر أمام ما حدث للطفلة ريهام وآخرين كثر ممن دخلوا المستشفيات في شأن بسيط كعملية خلع الأسنان فخرجت قبلهم أرواحهم أو خرجوا منها أجسادا يحملون الموت بأمراض مستعصية.
كتجربة شخصية في مستشفى عسير، أضعت أكثر من أربعة مواعيد مهمة عند عيادات مختلفة منها القلب والعيون والجراحة، ليس إهمالا مني ولكن لأن الحصول على موعد كان يحتاج إلى موعد، ولم أكن أفهم أي تقنية تلك التي لا تستطيع أن تعرف المواعيد المتاحة لكل طبيب، كان علي بعد كل زيارة للطبيب أن أقف لساعات في طابور طويل أمام موظف المواعيد فقط لأحصل في النهاية على موعد بعد عدة أشهر ليس للعيادة بل لأعود وأقف في الطابور نفسه للحصول على موعد في العيادة فالأجهزة لا تعرف متى سيكون الطبيب متاحا لك، كما عدت أنا ستعود أنت في الموعد وستقف في الدور وستمضي بك الساعات لتكتشف أن الأجهزة لم تعرف شيئا حتى الآن وأن عليك أن تأخذ موعدا جديدا للحصول على موعد ولا تحاول الاتصال بالهاتف. وفي تجربة أخرى مرت عليّ أسابيع والحالة خطرة وتحتاج إلى عملية جراحية عاجلة، ومع ذلك لا يوجد سرير متاح ـــ قصة قديمة مرت على كل شخص كما مرت بي من قبل ـــ ولم يتح ذلك السرير إلا بالواسطة وليوم واحد فقط. وكما تعرض الكثير للأخطاء الطبية كادت زوجتي أن تفقد حياتها في المستشفى لولا أن تداركتها عناية الله، وقد طالبت بالتحقيق حينها مع الطبيبة وخرجت بخفي حنين كما خرج قبلي الكثير، وبعد مدة سمعت (مع ما في كلمة سمعت من تحفظ) أن الطبيبة ارتكبت خطأ آخر ـــ كعادتها ـــ وتم نقلها لتجرب حظها في مستشفى آخر بعد أن تدهورت سمعتها في هذا المستشفى.
قبل فاجعة الطفلة ريهام كنا نقول إن الشق أكبر من الرقعة لكن الذي يبدو أن وزارة الصحة لم يعد لديها قماش يمكن ترقيعه، وفي نظري أنها في حاجة إلى خياطة ثوب جديد، سياسات جديدة، خطة استراتيجية جديدة، إعادة هيكلة كاملة، وشاملة. يجب أن نعيد تقييم التجربة السابقة بكل أخطائها، لماذا لم تنجح تجربة المستوصفات في الأحياء؟ لماذا امتهن التجار الطب حتى أصبحت صحة الإنسان على قدر ما يدفع وأصبح الموتى والمواليد رهون المستحقات؟ لماذا ازدهرت صناعة الجراحة التي كانت آخر الطب وغاب صوت الطب الدوائي في المستشفيات حتى ازدهرت صناعة الأعشاب في الأسواق في تناقض غريب؟ لم تعد أسئلتنا عن الحلول ولا أين المشكلة، بقدر ما نريد أن نعرف ما المشكلة أصلا. لقد غرقت وزارة الصحة ـــ بل أغرقت نفسها ـــ في تجربة الاعتماد الصحي والجودة. مع ذلك، فالقضية ليست قضية رؤية ورسالة واعتماد وإجراءات مكتوبة، القضية هي الحاجة إلى استراتيجية وهيكله شاملة مع التركيز الشديد على قضية المراجعة الداخلية التي يجب أن تكون في وزارة الصحة (فضلا عن أي وزارة أخرى) هي أهم وظيفة وفيها أهم الموظفين من جميع التخصصات وأن تستقطب لها الوزارة أفضل الكوادر في العالم، فالمراجعة الداخلية هي روح الانضباط الشامل الذي يجب أن يعم وزارة الصحة بل قلبه ومحركه.
لم ترتكب خطيئة حقن الطفلة ريهام بالدم الملوث لأنه لم يكن لدى مستشفى جازان رؤية أو رسالة أو أنه لم يسع للاعتماد أو في عدم وجود مدير أو جهاز أو طبيب أو عدم وجود إجراءات مكتوبة، لقد ارتكبت تلك الخطيئة الفاجعة يوم ارتكبت لأنه لم يكن هناك انضباط والتزام صارم ولم يكن هنا من يراجع الانضباط ويعاقب على الإهمال في اتباع الإجراءات حتى ولو لم تحصل الحوادث أو لم يشتك مريض. نسيان القطن في بطن مريض خطيئة تحصل عرضا عن غير قصد لكن خلفها جريمة متعمدة وعن قصد في إهمال اتباع الإجراءات المعترف بها في مثل هذه الحالات. من المدهش دوما أن جريمة عدم الالتزام بالإجراءات لا تكتشف عادة ولا يلتفت إليها أحد، بينما تكتشف آثارها وخطاياها إذا اشتكى مريض، وبعد أن نعاقب ونعوض نعود كما كنا نهمل الإجراءات طالما لم يشتك المريض. والمؤلم أننا نغضب للخطيئة وتستفزنا أكثر من الجريمة التي لا يلتفت إليها أحد لتبقى هناك تفعل الأعاجيب ينجو منها من ينجو ويسقط في فخها من تعثر حظه.
المراجعة الداخلية ليست مجرد أعمال مالية فقط، هذا ما يجب أن يعرفه الجميع. ليست أوامر صرف وقبض، ليست مجرد جرد ومستودعات بل مهنة سامية أصبحت ضرورية جدا في أنحاء العالم وتشمل مراجعة أدق الإجراءات ومراجعة مدى الالتزام بها. لست في هذا المقال معنيا بشرح أهمية المراجعة الداخلية في شأن وزارة الصحة، ذلك أن الوزارة يجب عليها أولا أن تنتفض على نفسها، وأن تعيد تقييم كل التجربة الصحية القائمة، وأن توفر مسارا جديدا لنا، ثم تسهل إجراءات المسار بكل تفاصيله ثم تنشئ جهازا متكاملا للمراجعة الداخلية وليس مجرد وحدة وموظف مالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي