Author

أزمة الميزانية الأمريكية ببساطة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
ما حقيقة الصراع في السياسة الاقتصادية الأمريكية، وكيف يمكن تفسيره بإيجاز اقتصادي (للقارئ غير المتعمق)؟ إنه ببساطة الصراع القديم حول الضرائب بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. هذه المعركة التي أخذت مسارا وبعدا جديدين قبل عهد الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريجان، وذلك عندما اندلع نقاش طويل حول ما سمي حينذاك منحنى لافر. النظرية الاقتصادية التي خلف هذا المنحنى نظرية أنيقة وبسيطة، لكن آثارها السياسية كانت بعيدة المدى في الولايات المتحدة، ولقد فاز الجمهوريون مرات عديدة رغم مغامراتهم الخارجية الكثيرة فقط بسبب تبنيهم فلسفة هذه النظرية. وباختصار، فإن المنحنى يصور العلاقة بين إجمالي الدخل الحكومي الناتج عن الضرائب وبين معدلات الضريبة، فالمنحنى يقول إن مبلغ الدخل الناتج من الضرائب سيكون صفرا إذا كان معدل الفائد 0 في المائة، وإنه سيكون كذلك أيضا إذا كان المعدل 100 في المائة. ذلك أن نسبة الضريبة 0 في المائة تعني أن الناس لن يدفعوا شيئا للدولة، وبذلك فإن حصيلة الضريبة صفر، وهذا منطقي، لكن عندما تصبح الضرائب بنسبة 100 في المائة، فإن الناس سيتوقفون عن العمل بكل بساطة، فلا معنى للعمل والدولة ستأخذ كل الأرباح. وهكذا، فإن معدلات الضرائب التي يمكنها أن تدر دخلا على الدولة هو حتما بين 0 في المائة و100 في المائة، لكن كم على وجه التحديد؟ لقد كانت بدعة منحنى لافر أنه يقول إن محصلة الضريبة من الإيرادات ترتفع مع المعدل حتى مستوى معين بعدها، فإن أي زيادة في الضرائب ستؤدي إلى انخفاض الإيرادات كلما ارتفع معدل الضريبة حتى نصل إلى صفر إيرادات مع 100 في المائة لمعدل الضريبة، وعليه فإن خفض معدلات الضريبة سيؤدي إذا إلى تشجيع الناس على العمل والإنتاج، وبالتالي زيادة أرباحهم، وفي النهاية زيادة دخل الضرائب الحكومية، وهذه السياسة ستسعد الأمريكيين حتما. وهكذا تبنى الجمهوريون سياسات تخفيض معدلات الضريبة، وكان أكثرهم تحمسا لها بوش الأب والابن، وبخاصة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، فهذا يعني اكتساحهم الانتخابات، وأيضا الحفاظ على مستويات نمو جيدة للاقتصاد. لكن المشكلة أن الجمهوريين تبنوا هذه النظرية بتطرف نوعا ما، ومع النمو الصناعي المستمر لدول شرق آسيا ودول شرق أوروبا ودخول الولايات المتحدة في مغامرات حربية وسياسية، كانت المصروفات الحكومية ترتفع بحدة بينما لم ترتفع الإيرادات بالمستوى نفسه أو قريبا منه على الأقل؛ فواصل العجز ارتفاعه إلى مستويات قياسية، وأصبحت مشكلة الساسة الأمريكيين معقدة، وتزداد تعقيدا مع مرور الوقت. فالعجز في الموازنة وصل حدودا قصوى، وظهرت خطورة تأثيره مع الأزمة المالية الأخيرة، حيث بدأت المؤسسات المالية العالمية بالسؤال حول قدرة الدولار على المحافظة على قيمته، وبالتالي قيمة ما التزمت بدفعه الولايات المتحدة على دينها. فالقضية لم تعد في عدد الدولارات التي ستدفعها الحكومة الأمريكية على دينها، بل في حقيقة قيمتها. هذا جعل بعض المؤسسات تلوح بخفض تقييم السندات الأمريكية وهو تلويح خطير عن قدرة الدولار على الحفاظ على قيمته. لقد كانت مشكلة الولايات المتحدة مع دينها كبيرة والحلول صعبة، وهكذا بدأت رحلة مريرة من النقاشات الاقتصادية بمحاولات رفع سقف الدين، التي واجهها الكونجرس بعنف ورفض شديدين، فعلى حكومة الولايات المتحدة أن تخفض مستوى العجز في الموازنة فقط. هنا ظهرت أكبر عقبة اقتصادية سياسية وفجّرت معها الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين، إنه الصراع على الضرائب. قدم أوباما خطته على أساس أن خفض العجز في الميزانية لن يحدث إلا من خلال مسارين، أولهما رفع الإيرادات الحكومية، وهذا لن يحدث ما لم يتم إصلاح النظام الضريبي من خلال رفع الضرائب وتعديلها على بعض الفئات وإلغاء كثير من الإعفاءات، كذلك ملاحقة الملاذات الضريبية حول العالم، والمسار الثاني خفض الإنفاق إلى مستويات غير معهودة، وهي ما سميت بالهاوية المالية. ارتعب الأمريكيون من خطة الهاوية المالية التي تتضمن اقتطاعات تلقائية بمجرد عدم تمرير خطة رفع الضرائب، وذلك أن الحكومة الأمريكية ستعمل خلال عام 2013 بسقف أعلى للعجز المسموح به، فإذا لم تتحقق الإيرادات المطلوبة، فلا مفر من حدوث اقتطاعات تلقائية في بنود ميزانية كثير من الوزارات ومنها وزارة الدفاع والتعليم والصحة. رفض الجمهوريون خطة أوباما لرفع الضرائب على أساس أنها ستقود للكارثة الاقتصادية نفسها فيما لو حدثت الهاوية المالية بالاقتطاعات التلقائية للمصروفات، فتهديد الديمقراطيين والإعلام بالهاوية المالية غير مجد؛ ذلك أن حدوث زيادات في الضرائب وفقا لخطة أوباما سيشوه الاقتصاد بطريقة تصعب معالجتها فيما بعد، فزيادة الضرائب ورفع معدلاتها سيتسبب حتما ـــ وفقا لنظرية منحنى لافر ــــ في اتجاه الناس إلى تفضيل الراحة على العمل، وبالتالي تقليل مستويات الإنتاج فتنخفض الأرباح، وبالتالي تنخفض الإيرادات الحكومية وتعود الميزانية الاتحادية إلى نقطة الصفر والتخفيضات التلقائية والهاوية المالية، لكن مع مصيبة أكبر وهي انخفاض مستويات الإنتاج والنمو الاقتصادي وخفض مستويات الإنتاج، ويدخل الاقتصاد الأمريكي في ركود طويل أو حتى كساد. وفي المقابل يرى الجمهوريون الحل في أن يتخلى الديمقراطيون عن بعض مشاريعهم الطموحة نحو الإصلاحات الصحية والاجتماعية وقانون الهجرة. أين يكمن الحل؟ لقد تعوّد الأمريكيون على مغامرات طائشة في السياسية الخارجية، وفي اعتقادي أنه حان الوقت كي يشعر الأمريكيون بما يشعر به باقي دول العالم، وكما قال أوباما في خطابه الأخير أمام الكونجرس ''لم نعد في حاجة إلى إرسال الآلاف من أبنائنا وبناتنا إلى الخارج أو احتلال دول أخرى''. كما يجب أن تعود الولايات المتحدة إلى روحها الحقيقية، وأن تكون ملاذا للمهاجرين في العالم. يقول أوباما في ذلك إنه يجب على الولايات المتحدة العمل بجد لاجتذاب المصنعين والمستثمرين للعودة إلى الولايات المتحدة. وهنا يطلق أوباما واحدة من أروع عباراته قائلا: إن مهمة جيله هذا هو ''إشعال فتيل المحرك الحقيقي للنمو الاقتصادي الأمريكي ـــ وهم أبناء الطبقة الوسطى الناهضة والمزدهرة''.
إنشرها