اتساق التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي!

بين النمو الاقتصادي والتكنولوجيا علاقة مطردة، تترتب فيها زيادة معدل النمو الاقتصادي على زيادة معدل التقدم التكنولوجي والعكس صحيح أيضا، مثلما استنتج روبرت جوردون في بحث أشار إليه أستاذ سياسات الاقتصاد الدولي أشوكا مودي، في مقالته "عالم ما بعد النمو" التي نشرتها "الاقتصادية" في آفاق.
ربما لا يرى البعض ما يثير العجب أو الاستغراب في هذا الاستنتاج ويعتبرونه شأنا بديهيا .. غير أن المسألة ليست على هذا النحو دائما فيما يخص الإنتاجية والعوامل الرئيسة في الارتقاء بها حجما ونوعا، فهناك من لا يرى للتكنولوجيا هذا الدور السلطوي على إطلاقه، على أساس أن التكنولوجيا دون المعيار الخلقي ودون التشريعات الصائنة للحرمات الإنسانية وحقوق البشر بسواسية حق الحياة والعدل للجميع، فلن تكون هذه التكنولوجيا سوى مصيدة للخير والشر معا، أي سلاحا ذا حدين.. فهي قد تجلب القوة والمتعة لأمة من الأمم أو لشعب من الشعوب عسكريا واقتصادي،ا كما قد تخلق حراكا تنمويا مزدهرا في ظاهره، لكن ذلك قد يكون كذلك على حساب مجاميع من الناس تهمل في الخفاء، قد تبلغ نسبة كبيرة من السكان، مثلما قد تكون على حساب أمن وثروات وحريات شعوب وأمم أخرى.. بمعنى أن التكنولوجيا التي تقدم الرخاء الاقتصادي والقوة السياسية، قد تمثل عبئا على بعض فئات شعوبها وقد تمثل أيضا خطرا وظلما على شعوب أخرى .. ومسيرة الاستعمار ثم هيمنة الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، إبان ثلثي القرن الماضي على العالم، أمثلة صارخة على اتساق التقدم التكنولوجي مع التقدم الاقتصادي، لمصلحة القوي، ممثلا في سلطة الدولة على حساب الضعيف من الأمم، وعلى المستغل من فئات شعبية محروقة هي من يصنع الاقتصاد والتقنية وهي - مع ذلك - من يرزح تحت أثقالها.
وإذا كان من غير المنطقي نبذ التقنية أو التكنولوجيا والاستغناء عنها، بل هو ضرب من المستحيل، فإنه في المقابل يمكن تعميق وتوسيع فك الارتباط بين دوافع الهيمنة والتحكم وبين دوافع النمو الاقتصادي للمصلحة العامة والإنسانية .. وهو ما سعت إلى التوافق عليه مبادئ وقوانين وتشريعات منظمات هيئة الأمم المتحدة في تحريمها استخدام بعض الأسلحة وتكنولوجيا معينة، مثل أسلحة الدمار الشامل والاتفاق بشأن عدم انتشارها .. لكن مع ذلك يبقى القول إن كل هذه المنظمات وما اعتمد من وثائق واتفاقيات لمصلحة البشر، ما زالت غير قادرة على لجم التقدم التكنولوجي في أبشع صوره، من السموم الفتاكة والأسلحة هائلة التدمير للبشر والمنشآت والبيئة بشكل عام، فضلا عن أن التكنولوجيا ما زالت تدير مختبرات ومعامل تتولى إنجاز ما يشكل مسخا لسوية الروح البشرية، والتلاعب بجينات البشر وخلاياهم، بما لا يخضع لمعايير خلقية، وإنما لغرائزية منحطة في جشع للمال، أو لغشامة السيطرة. غير أن السماء ليست كلها ملبدة بالغيوم السوداء .. فثمة أشعة لشموس ضمائر ما زالت تشع في اتجاه يؤكد على تعظيم النمو الاقتصادي بما يحقق مستويات رفيعة للمعيشة في نطاق إنساني حميم .. ولعل الأهداف الألفية التي كانت قد حددتها الأمم المتحدة واستنفرت التنمية العالمية من أجل تحقيقها، في منافسة بين منظومة أعضاء هيئة الأمم المتحدة .. نقول: لعل هذه الأهداف وغيرها من مدونات عن التنمية البشرية وحقوق الإنسان تقدم جرعات للتفاؤل بغد تكون فيه التكنولوجيا خيرة كلها لمصلحة اقتصاد البشر وتقدمهم وسعادتهم ولا غير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي