التنمية كما أتمناها (1 من 2)

التنمية الحقيقية التي أراها وأتمناها بعد رحلة لأكثر من 30 عاما بين مختلف أروقة الجامعات والمؤسسات العامة والخاصة في مختلف دول العالم هي التنمية القادرة على توطين فرص العمل الحقيقية للمواطن، هذه الفرص التي تغنيه وتساعده عند الحاجة إلى أي مساعدة أخرى، بحيث تضمن له ووفقا لقدراته العلمية والعملية العمل المولد لمصدر الدخل والقادر على تنمية مواهبه وإمكاناته ويكون العمل عملا منتجا وليس عبئا إضافيا على التنمية.
التنمية تحمل العديد من التعريفات والرؤى وسبق لي الكتابة عنها وعن أنواعها وأغراضها وأهدافها، لكن ما أراه جامعا لكل ما سبق من كتابات هو الربط بين التنمية البشرية الإنتاجية والتنمية المكانية الموطنة لفرص العمل في مختلف مناحي ومتطلبات الحياة.
إن توطين فرص العمل وتعزيز هذا التوطين من خلال الاستثمار الأمثل لكل المشروعات التنموية الاقتصادية والإنشائية والخدمية التي نقوم بها اليوم وقدرة هذه المشروعات التنموية على توليد فرص عمل دائمة مستدامة سينقل ما نعيشه اليوم من قلق وهم على متطلبات الغد إلى واقع مريح يفرض على كل عامل تقديم كل ما يستطيع من عطاء وإنجاز للارتقاء والتطور في عمله ويتحول المواطن من عاطل محبط إلى مواطن صالح منتج يحرص على تحقيق الاستقرار والأمن والرخاء لوطنه.
إن تحديات التنمية السعودية تبرز في ارتفاع معدل نسبة الشباب من الجنسين في التركيبة الاجتماعية وهذا الارتفاع يبرز المتطلبات الأساسية التي يحرص عليها كل شاب وشابة من توفير الدخل والسكن ومتطلبات الحياة الكريمة وهذه المتطلبات ما لم تنقلها الدولة أولا ثم الحكومة ثانيا من برامج رعوية إلى برامج تنموية إنتاجية سنستمر في التضجر والسخط واللوم لكل عمل، على أساس أن الكثير من متطلبات المجتمع لا يمكن تحقيقها وفقا لقاعدتنا الحالية تحت ما يسمى المسؤولية الرعوية أو التنمية الرعوية.
لقد أثبتت الكثير من التجارب التنموية أن ثقافة التنمية الرعوية تجعل المرعي دائما ساخطا وغير شاعر بالمسؤولية وتجعل نقده دائما على من هو مسؤول عن تقديم كل الخدمات له سواء الأساسية أو الكمالية وما نشاهده اليوم من مختلف أطياف المجتمع يعزز ويؤكد ذلك، وفي الوقت نفسه لم تستطع الدولة أو الحكومة من تقديم ما يحقق متطلبات المواطن الضرورية وعلى رأسها توفير السكن الملائم مع أنها لو عززت من مفهوم التنمية الشاملة المحققة والمواطنة لفرص العمل لجعلت عبء توفير السكن بالشكل الملائم على عاتق المواطن بدل الدولة أو الحكومة بحيث تتفرغ الحكومة لتوفير البنية التحتية وشركات التطوير العمراني للإنشاء والمواطن للاختيار السكن من حيث المساحة والموقع والمتطلبات الخاصة بدل ما نراه اليوم من بعثرة عمرانية بين أنظمة منح للأراضي متضاربة ومتعارضة ومشاريع للإسكان ربما لن تحقق ما يتطلع إليه المواطن وإذا تحقق ذلك فلن يجد التقدير المرجو على أساس الإحساس بقيمة العمل والمنجز.
لقد أثبتت التجارب التي قامت بها شركة أرامكو مثلا في توفير السكن لمنسوبيها أنها تجربة جيدة تستحق الدراسة والتأمل للاستفادة منها في المرحلة التنموية القادمة، فلقد حققت "أرامكو" فرص العمل أولا ثم مع توطين هذه الفرص والعاملين فيها وتعزيز انتمائهم الوظيفي للشركة بدأت في دعم هذا الانتماء من خلال العمل المخلص والجاد والمنتج للموظف في توفير متطلباته الضرورية وعلى رأسها توفير السكن الملائم وفق نظام مالي يناسب الطرفين وفق معادلة حققت الاستدامة والولاء والعطاء والإنجاز من الطرفين وهو ما أرى أنه نموذج مع بعض التطوير يمكن تطبيقه بين الحكومة والمواطن وتحت إشراف الدولة، بحيث تعمل الحكومة على توفير فرص العمل للمواطنين في مختلف قطاعات الدولة الخمسة، خصوصا القطاع الخاص ثم تحول فرص العمل إلى برنامج تنموي يحدد الأولويات والمتطلبات ويتم تطبيقها وفقا للقدرة الفردية على العطاء والتطوير والإنجاز دون تغييب للتحفيز.
وتبقى بعد ذلك مسؤولية الدولة والحكومة وبقية قطاعاتها توجه للفئات غير القادرة على العمل من خلال توفير متطلباتها الأساسية وتحقيق الرفاهية الإنسانية لها.
إن التحول من ثقافة التنمية الرعوية إلى التنمية الإنتاجية هو أحد أهم المخارج التي أراها اليوم لمستقبل تنموي أفضل للغد، خصوصا مع التزايد الكبير في عدد الشباب وارتفاع مستوى التعليم والوعي والعتب وعدم قدرة الحكومة على تحقيق الكثير من المتطلبات ولأن المؤشرات المستقبلية لا تبشر بخير إذا استمررنا في سياستنا وبرامجنا الرعوية نفسها غير الإنتاجية. وللحديث بقية، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

وقفة تأمل:

لهَوَى النّفُوسِ سَرِيرَةٌ لا تُعْلَمُ
عَرَضاً نَظَرْتُ وَخِلْتُ أني أسْلَمُ
وَلَقَدْ رَأيتُ الحادِثاتِ فَلا أرَى
يَقَقاً يُمِيتُ وَلا سَوَاداً يَعصِمُ
وَالهَمُّ يَخْتَرِمُ الجَسيمَ نَحَافَةً
وَيُشيبُ نَاصِيَةَ الصّبيّ وَيُهرِمُ
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ
وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي