الموارد التربوية بين الفاعلية والتهميش

من حق وزارة التربية والتعليم وهي تقارن نفسها بوزارات أخرى أن تفخر بمواردها التربوية التي تضم قرابة 700 ألف فرد من الذكور والإناث، وهو ما لم يتوافر لأي وزارة أخرى.
وهذا الرقم الاستثنائي قادر على تحويل الخطط والاستراتيجيات حبيسة الأذهان والأدراج إلى مشاريع واقعية ناجحة، لكن السؤال الملح: هل نجحنا في إدارة وتنمية هذه الموارد الثمينة لتواكب تطلعات المجتمع وصناع القرار السياسي والتنموي؟
أزعم أن الإجابة لا تحتاج إلى كثير من التفكير، فرغم كل ما يصدر من القيادة العليا في الوزارة إلا أن الفجوة كبيرة جدا بين الوزارة والميدان التربوي، ولا أبالغ لو قلت إن الشعور بالتهميش والكثير من السخط يسود العاملين في الميدان التربوي من القرارات الهرمية التي تصدرها الوزارة بشكل يومي دون مراعاة لكثير من الجوانب التشريعية والنفسية والوظيفية، فبات معظمها عرضة للفشل أو للتطبيق الضعيف ''بدون نفس'' مع قدر كبير من المقاومة الخفية المرتبطة بعدم واقعية ما يطلب من الميدان في معظم الأحيان،
فتتكرر النتائج الباهتة ويسود الأداء المرتبك من أجل إرضاء ''اللي فوق''.
ولو كان منسوبو الميدان من معلمين ومديري مدارس ومشرفين شركاء في القرار، لما حصل كل هذا اللغط مع كل قرار تتخذه الوزارة وتطلب التنفيذ بشكل عاجل دون جدال أو نقاش أو فرصة لإبداء وجهة النظر المختلفة.
يمثل المعلمون جوهر الأداء للموارد التربوية، لكنهم يفتقدون الكثير مما يستحقونه؛ بدءا من نعمة الاستقرار التي ضاعت في متاهات حركات النقل وأرقام الانتظار بالسنوات، وأقحمت الوزارة نفسها بمركزيتها المقيتة في تفاصيل حركة نقل منتظرة تصدر كل سنة لا تلبي الطموح، وكان بالإمكان تلافي ذلك لو تمت معالجة المشكلة من الجذور، والغريب جدا أن الوزارة تحتكر تفاصيل حركة النقل حتى بين المحافظات القريبة، فلو أراد معلم الانتقال من الخبر للدمام، وهي لا تبعد أكثر من 20 كيلومترا، فلا بد أن يكون عن طريق الوزارة، والأمر نفسه ينطبق على مدن أخرى مثل ''جدة - خليص'' أو ''الرياض - القويعية'' وكان الأولى أن تكون طلباتها عن طريق إدارات التعليم وفق جدول زمني يقضي على المحسوبيات ويكفل للجميع الاستقرار.
ولا يقتصر الأمر على غياب الاستقرار، فمطالب التأمين الصحي، وتحسين الدرجات الوظيفية المستحقة نظاما، والتدريب على رأس العمل، وتحسين البيئات التعليمية، مطالب متكررة تتردد منذ سنوات، لم يقابلها ما يستحق من اهتمام سوى تصريحات ووعود إنشائية،
ففي مجال التدريب مثلا تقول إحدى الدراسات إن نصيب المعلمين دورة كل أربع سنوات، وإن معظم المعلمين تقاعدوا عن العمل ولم يتجاوز نصيبهم من التدريب أربع دورات خلال 27 عاما من العمل، وهذا مؤشر مخجل وكاف لجمود الأداء والعجز عن المواكبة الذي يكاد يعم الميدان التربوي.
ولا يختلف الأمر للقيادات التربوية التي تعمل تحت ضغوط متواصلة دون حوافز أو مميزات تشجيعية، ما جعل التسرب والعزوف عن المواقع القيادية في المدارس والمراكز التربوية أمرا سائدا.
إن الموارد التربوية اليوم في حاجة ماسة إلى التعامل معها كمورد ثمين قادر على الإنجاز والتفوق متى ما أحسنا استثمارها ومنحناها ما تستحق ثم محاسبتها في حال التقصير، ولم يعد يتلاءم معها أن تظل كما هي في الأذهان عبئا مكلفا في إدارتها وتنميتها وإشغالها بالجدل وضياع الوقت و''الدوام'' بلا إنتاجية تذكر.
تمتلك وزارة التربية اليوم كل الإمكانات لتطوير مواردها التربوية واستثمارها بشكل مختلف وليس لها عذر في التقصير، ولعل خطوات التغيير تبدأ من إنشاء وكالة وزارة باسم ''الموارد التربوية'' بدلا من القسم المتواضع في الوزارة المسمى ''شؤون المعلمين''، ثم تفعيلها على أرض الواقع وسن حزمة من التشريعات والمحفزات تعطي المتميز حقه وتحاسب المقصر، بدلا من نظام المساواة القائم الذي لا يفرق بين مجتهد ومتفوق أو مقصر. ولا تكتفي بذلك، بل تعمل على تحقيق الاستقرار النفسي وإعادة الحقوق لأصحابها وتسهم في تنمية أصحاب المواهب في الميدان، بما في ذلك صناعة القادة وتأهيلهم وابتعاثهم وتعزيز برامج التأهيل المهني وزيادة الوعي بأهمية التطوير الذاتي وربطه ببرامج التحفيز، وإشراك منسوبيها في اتخاذ القرارات وفق آليات حديثة.
إن الوزارة قد لا تستطيع تحقيق ذلك وحدها، لكنها تستطيع أن تفعل ذلك بنجاح بالشراكة مع القطاع الخاص ومع الجامعات ومع المنظمات الدولية ذات الاهتمام بالشأن التربوي مثلما تفعله كل وزارات التربية في العالم، ولو بادرت الوزارة بذلك لحولت الميدان التربوي إلى ورشة عمل ناجحة قوامها الرضا والتطوير المهني الناجح ومؤشرات الإنجاز المتسارعة.
إن هذا الأداء الرتيب في الميدان التربوي والتكرار الممل في الخطط والبرامج والاعتماد على التعاميم الوزارية البعيدة عن الواقع، تجعلنا أكثر قلقا على المستقبل وأكثر ترقبا للتغيير الذي طال انتظاره.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي