Author

الابتعاث بين قرنين

|
فوجئت بصديقي يسألني عن الجامعات التي تلائم ابنه في الولايات المتحدة. أعرف أن -الصبي- كان في آخر قائمة الناجحين في الثانوية العامة، بل إن صاحبي اضطر لتدريسه في -أزحف- ثانوية، ليضمن تخرجه. حصل الابن على علامة أقل من 60 في اختبار القدرات، وهو إنجاز يصعب النزول إليه مهما حاول الطالب. كيف يمكن أن يذهب هذا الطالب إلى الولايات المتحدة ويُضم إلى البعثة وهو لم يتجاوز المرحلة الثانوية إلا بالواسطة و''الدف'' من جميع الجهات؟ تقدم الطالب لكل الجامعات والمعاهد، لكنه لم يقبل، بسبب تدني تحصيله وعدم تحقيقه المتطلبات، حتى إن الكثير من الجامعات لم تقبل أن يدخل المنافسة لعدم توافر الحد الأدنى من المتطلبات. آخر سألت عنه فقيل لي: إنه يدرس في بريطانيا للحصول على درجة الماجستير. لا أخفيكم أنني فرحت، لأنني توقعت أن تفوقه هو سبب ابتعاثه. لكنني اكتشفت أنه تخرج بمعدل منخفض لم يمكّنه من الحصول على وظيفة، ولهذا فضّل أن يغادر للخارج للحصول على الماجستير لعلها تشفع له عند عودته. جامعاتنا لن توافق على أن تضمه لبرامج الماجستير المعتمدة لديها، لأن معدله منخفض، والدراسات العليا تتطلب استيعابا ومجهودا أكبر مما تتطلبه مرحلة البكالوريوس، وهي حجة مقبولة إلى حد ما. ثالث كان مسؤولا في مدينة كبيرة، وكان طول مدة تكليفه موجودا وعلى رأس العمل لنفاجأ بحصوله على درجة الدكتوراه في الهندسة التي لم نكن نتوقع أنه حصل على درجة الماجستير فيها أصلا. لا يذكر أحد أنه افتقده أو أنه حصل على إجازة، إنما كانت انتدابات كما اعتاد الموظفون والمراجعون عندما يسألون عنه. هل هذا تخريف؟ يسألني كل من قرأ كلامي. أقول: والله: إنها حقائق ويمكن أن يجد القارئ أكثر منها في بيئته. لا يستطيع عاقل أن يصدق حصول مثل هذه الأمور. فكيف وصل بنا الحال إلى هذا المستوى من عدم المسؤولية عن الوطن والمواطن ومستقبل الاثنين؟ يسأل آخر ''على طريقة فيصل القاسم''. أقول وبالله التوفيق: كان الابتعاث وسيلة لتغطية النقص الحاصل في تخصصات علمية أو أدبية معينة عندما لم تكن هذه التخصصات متوافرة، كما الحالة في أوائل الخمسينيات الميلادية، ثم انعدام تخصصات معينة في الجامعات القائمة في الستينيات. وصولا إلى محدودية قدرة الجامعات على استيعاب الخريجين، إضافة إلى السببين الآخرين.. فما الفرق بين حالة القرن الماضي ومستجدات القرن الحالي في الابتعاث؟ يتوقع الإنسان أن تتطور وسائل التقويم والإحصاء والاختيار مع مرور الوقت. هذا لأن المبتعثين في الماضي كانوا يُختارون من أفضل الخريجين. رغم ذلك كان الكثير من الخريجين يواجهون صعوبات الاختلاف الثقافي والاجتماعي والانفتاح الذي لم يتعودوا على مثله في مجتمعنا، وهو ما أدى بالولايات المتحدة -على سبيل المثال- إلى تغيير نوع التأشيرة الممنوحة للطلبة من دبلوماسية إلى تعليمية. لكن الطلبة كانوا مختارين من قبل الجهة المانحة للبعثة. يعبر الواقع اليوم عن حالة مختلفة تماما وهي أن من لم يتمكن من الحصول على قبول في الجامعات أو وظيفة بعد التخرج لسبب أكاديمي يتوجه للدراسة في الخارج. أنا لا أعترض على رغبة الشخص في تطوير ذاته أو الحصول على أفضل الفرص التعليمية، لكن الاعتراض على أسلوب الضم المبني على مجرد وجود الشخص في جامعة أو معهد لغة خارج المملكة، وهي مغامرة تقوم بها أغلبية الأسر لتحسين فرص أبنائها. سؤالي الوحيد هو: لماذا لا تخطط وزارة التعليم العالي لجميع الفرص الممكنة في برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث وجميع الجامعات والمعاهد والكليات في عملية إحصائية من خلال قاعدة بيانات شاملة، بحيث يتم توزيع الخريجين على كل هذه الفرص بطريقة عادلة. إن ابتعاث أفضل خريجينا هو الوسيلة الصحيحة للحصول على مخرجات تسهم بإيجابية في عملية البناء والتطوير، فالجامعات العالمية التي تبني الوزارة الموافقة عليها على مستواها الأكاديمي يمكن أن تقدم للمبتعث الفرصة للإبداع والتفوق. وها نحن نطالب المتقدم لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بمتطلبات أعلى من المتقدم لجامعة أخرى بناء على المستوى الأكاديمي لجامعة كهذه. والمؤكد أنه باختيار أفضل الخريجين للابتعاث سنتمكن من إلزامهم بالتخرج في جامعات على مستوى أعلى. قضية أخرى تكمن في تمثيل المملكة في الخارج. أزعم أن المتفوقين دراسيا سيعطون انطباعا أفضل عن بلدهم. ولا بد أن كل من شاهد المبتعثين من دول مثل اليابان وكوريا والهند يعلم أن هؤلاء يحظون بالإعجاب والتقدير من زملائهم في الجامعات ومن أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ومن المجتمع ككل. هذا ينعكس كذلك في نشاط الطلبة الاجتماعي والثقافي، وهو مهم في أغلبية دول العالم. جزئية مهمة جدا في هذا الإطار وهي مدة البعثة. يقضي الطالب الأقل كفاءة فترة أطول في الحصول على الشهادة الجامعية -إن حصل عليها- هذا يعني مصاريف أكبر على الوزارة دون فوائد تذكر، إذ إن المبتعث يكلف الدولة أكثر من خمسة طلبة يدرسون داخل المملكة. هذا يضاف إلى أن فرصة التوظيف تكون -عادة- أفضل لخريجي الجامعات الأجنبية بالنظر للتفوق في مجال اللغة والحاسب الآلي والتطبيقات الفعلية، وهذا يقلب موازين الاستحقاق الوظيفي الذي يجب أن يعتمد على الكفاءة. كل هذا يوجب على المسؤولين في وزارة التعليم العالي أن يبذلوا جهدا مضاعفا في سبيل ابتعاث أفضل خريجي الثانوية العامة وليس الأسوأ، وضمان المزيد من المقاعد في الجامعات الوطنية. كما يضمن أن تقوم الدولة باختيار من تبتعثهم باعتبارهم استثمارا في الموارد البشرية، وليس ترك المجال للأشخاص أنفسهم في وضع الدولة أمام الأمر الواقع بالاضطرار لضمهم للبعثة.
إنشرها