مستقبل الاقتصاد السياسي السعودي

يعد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، إذ عالجت أبحاثه الظواهر الاجتماعية بأسلوب إبداعي من خلال ربط نتائج الماضي بالمؤشرات الحالية لاستشراف المستقبل. ألقت فلسفة ابن خلدون بظلالها على كثير من علماء الاجتماع والاقتصاد. من هؤلاء العلماء عالم الاقتصاد الروسي كوندراتيف، عندما عكف على دراسة الظواهر الاقتصادية التي مرت بالاقتصاد العالمي الحديث، في محاولة لتفسير حالات النمو والتباطؤ الاقتصادي التي حلت منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين. خرج كوندراتيف بنتيجة مفادها أن الاقتصاد العالمي الحديث مر بخمس موجات متسلسلة. راوحت الموجة الواحدة في طولها قرابة 50 - 60 عاما. تشابهت هذه الموجات في الخواص والسلوك والتأثير، وتباينت في المحركات الرئيسة لنموها وتباطؤها الاقتصادي. أطلق كوندراتيف على الموجة الأولى عصر الثورة الصناعية محدداً بدايتها في 1771، وعلى الثانية عصر الآلات البخارية والسكك الحديد محدداً بدايتها في 1829، وعلى الثالثة عصر الحديد والكهرباء والصناعات الثقيلة محدداً بدايتها في 1875، وعلى الرابعة عصر النفط والسيارات والإنتاج الغزير محدداً بدايتها في 1908، وأطلق تلاميذ كوندراتيف على الموجة الخامسة عصر المعلومات والاتصالات محددين بدايتها في 1971.
أحد هؤلاء التلاميذ العالم النمساوي شمبتير الذي ذهب إلى تفصيل الموجات الخمس أعلاه على الاقتصاد المحلي بهدف تفسير التباين بين نمو وتباطؤ اقتصاد محلي عن نظرائه من بقية الاقتصادات المحلية. خرج شمبتير بنتيجة مفادها أن كل اقتصاد محلي يمر بأربع موجات صغيرة، في الوقت ذاته الذي يمر فيه الاقتصاد العالمي الحديث بالموجة الكبيرة. تعيد هذه الموجات الأربع الصغيرة نفسها في كل موجة كبيرة. يراوح معدل طول الموجة الصغيرة نحو عشرة أعوام. وتجسد كل موجة صغيرة حالة الاقتصاد المحلي من حالات النمو والتباطؤ، ومنشأ تحدياته وآفاقه. وجد شمبتير أن الموجتين الصغيرتين الأولى والثانية موجتا نمو، وأن الموجتين الصغيرتين الثالثة والرابعة موجتا تباطؤ. كما وجد في السياق ذاته فيصلاً بين موجات النمو والتباطؤ عبارة عن حالة انهيار اقتصادي مؤقت تصيب الاقتصاد المحلي بسبب عدم استيعاب مقوماته المستجدات المحيطة به.
كثيرة هي الفوائد التي نستنتجها عند قراءة سجل رحلة عبور الاقتصاد السعودي موجته الخمسينية الأولى (1950 - 2000) من منظور أبحاث وأدبيات العلماء ابن خلدون، وكوندراتيف، وشمبتير. مر الاقتصاد السعودي خلال رحلة عبور الموجة الخمسينية الأولى بأربع موجات صغيرة، راوحت الواحدة في طولها قرابة عشرة أعوام، وجسدت في رحلتها حالة من النمو والتباطؤ، ومنشأ التحديات والآفاق. صنّفت الموجة الصغيرة الأولى (1960 - 1970) والثانية (1970 - 1980) على أنهما موجتا نمو، عطفاً على مجموعة من التطورات التي أسهمت في ضخ الوقود الكافي لعبور الموجة الخمسينية الأولى بنجاح. من أهم هذه التطورات القضاء على الدين العام، وإصدار الريال السعودي، ونمو عائدات النفط بشكل غير مسبوق.
كما صنّفت الموجة الصغيرة الثالثة (1980 - 1990) والرابعة (1990 - 2000) على أنهما موجتا تباطؤ، عطفاً على مجموعة من التطورات التي أسهمت في إعادة الأولويات بما يضمن السيطرة على تحديات تلك الفترة. من أهم هذه التطورات زيادة التوتر السياسي في منطقة الخليج، وانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى أدنى مستوياتها، وتراجع حاد في الناتج المحلي الإجمالي. كما تميّز العقد الأول من الألفية الحالية بأنه مرحلة إعادة تأسيس للموجة الخمسينية الثانية (2000 - 2050) شبيهة بخمسينيات القرن الماضي (1950 - 1960). من أهم التطورات إعادة هيكلة قطاع الخدمات المالية، وتخصيص مجموعة من القطاعات الحيوية، وتسجيل الناتج المحلي الإجمالي مستويات جديدة.
وعلى الرغم من مساحة التفاؤل بمرور الاقتصاد السعودي خلال العقد الحالي (2010 - 2020) بمرحلة تنموية متميزة، إلا أن القلق لا يزال قائماً حول مجموعة من التحديات التي نتعرف عليها من خلال كتاب صدر في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في العاصمة الأمريكية واشنطن بعنوان ''المملكة العربية السعودية .. الأمن الوطني في إقليم مضطرب" للخبير الأمني في قضايا الشرق الأوسط في جهاز الأمن القوي الأمريكي أنتوني كورديسوان. قدم الكتاب قراءة تحليلية عن أهم تحديات الأمن الوطني السعودي، والجهود المبذولة في سبيل مواجهتها. استند الكتاب في تحليلاته إلى لقاءات عديدة مع مجموعة من المسؤولين السعوديين والوثائق الأمنية ذات العلاقة.
خلص الكتاب إلى عشرة تحديات تواجه الاقتصاد السياسي السعودي خلال العقد الحالي من الأهمية النظر إليها ومعالجتها. التحدي الأول قضية الإرهاب وانعكاسات تطوراتها على الاستقرار المحلي والإقليمي، والثاني مستقبل العراق وانعكاسات ضبابية الرؤية على إمكانية عودة العراق إلى تصدير كميات النفط العراقي إبان أيامه الذهبية. والثالث امتداد التأثير الإيراني في الخليج وانعكاسات ذلك على السيادة الإقليمية والإمكانات النووية، والرابع الاستقرار الداخلي في اليمن وانعكاسات ذلك على تأمين سلامة العلاقات الاقتصادية الثنائية السعودية - اليمنية. والخامس تطور تأثير منظومة مجلس التعاون الخليجي واستدامته، وانعكاسات ذلك على المستويين الإقليمي والدولي.
والتحدي السادس مستقبل الشراكة الاستراتيجية البينية مع الاقتصاد الأمريكي، وانعكاسات ذلك على مستقبل الشراكات الاستراتيجية الأخرى. والسابع سياسات إدارة عائدات النفط السعودي وآلياتها، وانعكاسات ذلك على تدعيم مقومات الاستكشاف والاستخراج والتكرير. والثامن تأمين مصادر الطاقة النفطية وسلامتها، وانعكاسات ذلك على خطوط إمداد الأسواق العالمية بالنفط الخام. والتاسع ديمغرافية الشعب السعودي الناشئة، وانعكاسات ذلك على معدلات التضخم، والبطالة، والأيدي العاملة الأجنبية. والعاشر تنويع موارد الاقتصاد السعودي، وانعكاسات ذلك على نمو القطاعات الإنتاجية غير النفطية.
إنه من الأهمية مدارسة تحديات الاقتصاد السياسي السعودي من المنظور الاقتصادي، ومن ثم وضع آليات مختلفة عن تلك التي استخدمت في الماضي لمواجهتها. يؤخذ في الاعتبار، أولاً، أهمية البحث عن أنسب النتائج عوضاً عن أحسنها، وثانياً، كيفية تنفيذ السياسة السعودية لتحقيق رؤية 2025 التنموية وثالثها، تطور دور الاقتصاد السعودي خلال الفترة المقبلة من اقتصاد إقليمي إلى اقتصاد دولي يؤثر ويتأثر بالقرار الاقتصادي العالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي