تساؤلات حول خطة «التيسير الكمي 3» (2 من 2)

تناولنا في الحلقة السابقة من هذا المقال أن الموجة الجديدة للتيسير الكمي التي أطلقها ''الاحتياطي الفيدرالي'' في الولايات المتحدة غير محددة من حيث التوقيت أو من حيث القيمة التي سيتم بها شراء السندات، وهو ما يعني أنه من المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة استمرار السياسات النقدية التوسعية لـ ''الاحتياطي اليفدرالي'' التي ينتهجها منذ فترة لرفع معدلات النمو وتحفيز مستويات النشاط الاقتصادي وتخفيض ضغوط سوق العمل، لكن هل يتوقع أن يترتب على إطلاق هذه الموجة الثالثة من التيسير الكمي تحقيق ''الاحتياطي الفيدرالي'' مستهدفاته من العملية بصفة خاصة ما يتعلق منها بسوق العمل؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن الموجتين السابقتين من التيسير الكمي صاحبهما تحسن مستويات النشاط الاقتصادي عند إطلاقهما في الولايات المتحدة، وذلك وفقا للدراسات التطبيقية التي أجريت حول فاعلية هذه السياسة، غير أنه ما إن توقف ''الاحتياطي الفيدرالي'' عن التوسع النقدي بانتهاء برنامج التيسير الكمي حتى عاد النشاط الاقتصادي مرة أخرى إلى التراجع. معنى ذلك أن ضمان تحقيق مستهدفات ''الاحتياطي الفيدرالي'' من موجة التيسير الكمي3 سيتطلب ضرورة أن تكون دفعات التوسع النقدي قوية ومستمرة حتى بعد تحسن معدلات النمو واستعادة النشاط الاقتصادي، ولعل هذا هو السبب الذي يقف وراء قرار اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة هذه المرة بعدم إيقاف عمليات التيسير الكمي بمجرد تحسن أوضاع سوق العمل مباشرة، وأن التيسير الكمي3 سيستمر فترة طويلة حتى بعد استعادة النشاط، مدلول هذا القرار يشير إلى أن ''الاحتياطي الفيدرالي'' على استعداد على ما يبدو لأن يتحمل قدرا أعلى من التضخم يتجاوز المعدلات المستهدفة وذلك في سبيل رفع معدل التوظف.
بعض المراقبين يرون أن مشكلة سوق العمل الأمريكية أكثر تعقيدا من مجرد النظرة المبسطة التي ينظر بها حاليا لكيفية التعامل مع معدل البطالة المرتفع، ذلك أن معدل الفائدة المنخفض ليس هو ما يشغل قطاع الأعمال الخاص حاليا ويمنعهم من اتخاذ القرارات الاستثمارية التي تساعد على رفع معدلات التوظف. من ناحية أخرى فإن هناك عوائق تقف بين الباحثين عن العمل وفرص التوظف المفتوحة في سوق العمل، بصفة خاصة تشير التقارير إلى أن هناك حاليا نوعا من عدم التوافق بين الاحتياجات الحالية لسوق العمل الأمريكية وهيكل المهارات المعروضة فيها، فسوق العمل تميل إلى فتح وظائف تتطلب مهارات مرتفعة، بينما المعروض من مهارات لا يتماشى مع ذلك، فبينما يزيد الطلب على الخريجين من كليات الهندسة وعلوم الحاسوب مثلا، فإن هناك أعدادا كبيرة من الخريجين من تخصصات الآداب والصحافة .. إلخ، ولا شك أن عدم التوافق هذا لن تحله تعديلات معدل الفائدة وزيادة حجم ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي''.
لكن أليس هناك من مخاطر في أن يترتب على برنامج التيسير الكمي غير المحدد من حيث القيمة آثار تضخمية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن موجتي التيسير الكمي السابقتين لم يصاحبهما ارتفاع في معدلات التضخم أو تجاوزها المستويات المستهدفة بواسطة ''الاحتياطي الفيدرالي''، إلا أن الوضع يعد مختلفا هذه المرة، حيث تعد مخاطر التضخم حقيقية طالما أن عمليات التيسير الكمي ستتم من دون سقف أو مدى زمني محدد. فعلى أرض الواقع أخذت التوقعات التضخمية للأسعار في الولايات المتحدة في التزايد عند أعلى مستوياتها منذ عام 2005، هذا الارتفاع في التوقعات التضخمية هو حصيلة عوامل عدة على رأسها ضعف الدولار، وارتفاع الأصول مثل أسعار الذهب وأسعار الأسهم، وارتفاع أسعار السلع مثل النفط، ولا شك أن جانبا كبيرا من هذه التطورات يعود إلى الإعلان عن خطة التيسير الكمي.
فما إن انتشرت الأخبار عن خطة التيسير الكمي3 حتى اندلعت شرارة أسعار الذهب الذي تتزايد أسعاره منذ فترة على نحو مستمر في انتظار هذه الأخبار، فقد بلغ سعر الذهب وقت كتابة هذا المقال 1770 دولارا للأوقية، كذلك ارتفعت مؤشرات الأسواق في أنحاء العالم كافة، مثل هذا النتائج تعد طبيعية في ظل التوسع النقدي، فسياسة النقود الرخيصة تؤدي إلى تغذية فقاعة أسعار الأصول، والتيسير الكمي يوفر الشروط المناسبة للتمويل الرخيص الذي يرفع أسعار الأصول ويوفر الشروط المناسبة للمضاربين في أسعار الأصول.
من ناحية أخرى، ارتفعت قيمة اليورو في مقابل الدولار، وهو ما يمكن أن يوفر مزايا إضافية تساعد على تحسين تنافسية الولايات المتحدة، بالطبع هذه التطورات ستثير استياء الدول الأخرى بصفة خاصة في أوروبا واليابان، والتي تواجه ظروفا صعبة حاليا وتحتاج إلى تحسين تنافسيتها لرفع مستويات نشاطها الاقتصادي. فقد أعلن البنك المركزي الياباني يوم الأربعاء الماضي نيته القيام بعمليات تسهيل نقدي لمساعدة الاقتصاد الياباني، وأخذا في الاعتبار القرار الذي اتخذه البنك المركزي الأوروبي بإطلاق برنامج لشراء سندات الدول المدينة بلا قيود، فإن التسهيل النقدي أصبح يمارس اليوم على نطاق عالمي.
ولا شك أن مثل هذه الأوضاع تمثل شروطا مثالية لانطلاق موجات مرتفعة من التوقعات التضخمية، ومعها يرتفع احتمال أن يؤدي استمرار التيسير الكمي من دون أجل محدد أو قيمة محددة إلى أن يفلت التضخم من سيطرة ''الاحتياطي الفيدرالي''، فما إن تنطلق التوقعات التضخمية قد تصبح عملية السيطرة عليها صعبة، وليس كما يدعي ''الاحتياطي الفيدرالي''، وإذا حدث ذلك سيتصاعد قلق ''الاحتياطي الفيدرالي'' حول معدلات التضخم قبل ذلك بوقت طويل، ما قد يدفع اللجنة إلى وقف البرنامج حتى قبل أن يحقق مستهدفاته.
وأخيرا ما تعقيدات استمرار عمليات التحفيز النقدي للاقتصاد الأمريكي؟ كما سبقت الإشارة إلى أن عملية الشراء المفتوح يفترض أن تؤدي إلى رفع ثقة قطاع الأعمال والمستهلكين بالاقتصاد الأمريكي من خلال التأكيد على إصرار ''الاحتياطي الفيدرالي'' على وقف الاتجاه التنازلي للنشاط الاقتصادي الأمريكي، وهو ما يزيد من الاتجاه نحو الاستثمار والاستهلاك، ومن ثم زيادة الطلب الكلي.
غير أن الاستمرار في عمليات التيسير الكمي سيترتب عليه ارتفاع حجم ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' على نحو كبير، ما يصعب عملية الخروج من استراتيجية التوسع النقدي التي يتبعها ''الاحتياطي الفيدرالي'' منذ بداية الأزمة. فقد ذكر بن برنانكي رئيس ''الاحتياطي الفيدرالي'' أكثر من مرة أن لدى ''الاحتياطي الفيدرالي'' خطة للخروج من الوضع الحالي، لكن مع تضخم ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' ستصبح عملية الخروج واستعادة ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' مستوياتها قبل الأزمة مسألة صعبة جدا، بصفة خاصة على المدى القصير حيث سيصبح إلغاء هذه التريليونات من الدولارات المصدرة في غضون فترة زمنية قصيرة أمرا صعبا للغاية، فسيتطلب ذلك التخلص من قدر هائل جدا من السندات في غضون فترة زمنية قصيرة، وسيترتب على ذلك اهتزاز سوق السندات نظرا للكميات الضخمة التي سيتم التخلص منها في حال رغبة ''الاحتياطي الفيدرالي'' في الخروج، ويؤدي ذلك إلى تراجع أسعار السندات بصورة كبيرة، ومن ثم ارتفاع معدلات العائد على السندات إلى مستويات حرجة قد تتسبب في آثار معاكسة على النشاط الاقتصادي.
الخلاصة هي أنه أخذا في الاعتبار نتائج الدراسات التي تمت على موجتي التيسير الكمي السابقتين فإن التيسير الكمي3 سيساعد الاقتصاد الأمريكي على إحداث تحسن مؤقت في معدلات النمو، لكن من المؤكد أنه لن يؤدي إلى حل مشكلاته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي