Author

أين يختبئ رأس المال الجريء؟

|
أكدت وما زالت تؤكد خطط التنمية للدولة على أهمية استغلال العوائد النفطية الحالية لتكوين اقتصاد أكثر تنوعاً لتخفيض الآثار السلبية للاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل. والسعودية تشهد حاليا مرحلة الانتقال من الاقتصاد المعتمد على الثروات الطبيعية إلى الاقتصاد المبني على الاستثمار تمهيدا للوصول إلى الاقتصاد المبني على المعرفة الذي يعد من أهم وسائل تحقيق التنوع الاقتصادي. وهذا الأخير من الاقتصاديات يحتاج إلى أربع ركائز أساسية هي البيئة الاجتماعية الحاضنة والتشريع التنظيمي وتعليم الموارد البشرية وأخيرا التمويل. وهنا أتطرق للركيزة الرابعة وهي التمويل، حيث تبنت الحكومة مشاريع ومبادرات تهدف لدفع مسيرة البحث والإنتاج العلمي في المملكة مثل إنشاء مراكز البحث العلمية سواء في الجامعات أو المؤسسات الحكومية المستقلة. وبين تقرير أعدته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في نهاية العام 2010م أن براءات الاختراع السعودية تمثل نحو 66 في المائة من إجمالي اختراعات العالم العربي. واستحوذت الجامعات السعودية على نحو 60 في المائة من براءات الاختراع باسم مؤسسات التعليم العالي العربية. وعلى الرغم من هذا التسارع في الإنجازات العلمية إلا أنها لم تحقق نجاحا مشهودا في تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد. ويرجع السبب إلى نواحي متعددة أهمها في رأيي غياب ركيزة التمويل المتمثلة فيما يسمى رأس المال الجريء أو المخاطر Venture Capital الذي يعتمد أسلوب المشاركة والمضاربة في الأرباح والخسائر مع صاحب المشروع بدلا من أسلوب القرض المضمون مع فائدته الذي تعتمده القروض التقليدية، ولذلك سمي بالجريء المخاطر. كثير من شركات التقنية الدولية القائمة الآن والكبيرة في حجم أصولها الاستثمارية مثل مايكروسوفت وآبل وجوجل هي نتاج لبداية صغيرة عن طريق رأس المال الجريء. فهذا النوع من التمويل هو ما أنقذ أمريكا من الزحف التكنولوجي الياباني في نهاية القرن العشرين، وذلك حين حولت عديد من البنوك والمؤسسات الاستثمارية الأمريكية نهجها من الإقراض إلى المشاركة، ومن دراسات الضمانات إلى دراسة الجدوى الاقتصادية. فهو يغطي فجوة عدم كفاية عروض التمويل بشروط ملائمة للمشاريع الناشئة التي تمثل جانب الطلب ولا تملك المعايير التي يطلبها التمويل التقليدي، ويمول المشاريع الناشئة الواعدة التي تملك فرصة كبيرة للنجاح ومضاعفة أصولها الاستثمارية، وبالتالي دخولها كإضافة اقتصادية للبلد، على عكس البنك التقليدي الذي يبحث عن الشركات الناضجة الكبيرة المستقرة التي غالبا توقفت طاقتها الابتكارية. وشخصية المستثمر في رأس المال الجريء ليست كغيره، فهو صاحب رؤية واضحة ومركزة، ويملك سرعة اتخاذ القرار، ولديه الرغبة والجرأة لتحمل المخاطر لتحقيق النجاح الشخصي والمالي، ولا تقتصر مساهمته كشريك استراتيجي في المشروع المبتدئ على التمويل فقط، وإنما يمزجه بخبراته ورؤيته وشبكة علاقاته والمساعدة الاحترافية في الإدارة والتخطيط، وحرصه على نجاح المشروع وربحيته وكفاءة إدارته بدلا من الاعتماد على الضمانات التي تعتمدها البنوك التقليدية. وتاريخياً يعد المسلمون الأوائل أول من قدم هذا النوع من الاستثمار للعالم من خلال المرابحة الشرعية والتي يشترك فيها الممول والمغامر في المخاطرة باقتسام الأرباح والخسائر الناتجة عن المشروع واستثمار الأموال فيما أحل الله وعدم كنزها في قروض مضمونة مع فائدتها. والارتباط الطردي للأرباح مع المخاطر هو قانون اقتصادي عادل أخذ به الإسلام أنه على قدر الغرم يكون الغنم. ومن أهم صفات المستثمر الجريء الانتقال من مشروع إلى آخر بعد تحقيق أهدافه قصيرة المدى، وبذلك فهو يقلل الاحتكارية التي نهى عنها الإسلام بسرعة تخارجه من المشروع وتوسيع دائرة ملاك المنشآت وتوزيع العوائد على عدد أكبر في المجتمع (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر: 7. ويواجه الباحث عن نشاط رأس المال الجريء في المملكة معضلة عدم توافر معلومات كافية عن هذا النوع من التمويل. فهناك مصادر بيانات محدودة عن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تضع المملكة ضمن منظومة إقليمية غير مفصلة. ومعظم إن لم يكن كل الشركات العاملة في السوق السعودي هي شركات استثمارية Privet Equity تعمل بطريقة تقليدية محافظة من ناحية تقييم النشاط المستهدف ومخاطره. وهناك مبادرات قليلة وصغيرة الحجم لإنشاء صناديق وشركات رأسمال جريء قامت بها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وشركة الاتصالات السعودية وشركة أرامكو، نأمل أن تكون شرارة الانطلاق. وفي رأيي أن هذا الوقت هو فرصة ذهبية لنمو صناديق وشركات رأس المال الجريء في المملكة في ظل توافر السيولة الكبيرة في الاقتصاد الناتجة عن الإنفاق الحكومي الهائل وعودة الأموال المهاجرة بعد الأزمات العالمية، وعدم تنوع قنوات الاستثمار وانخفاض الفائدة وأخيرا تفعيل سوق الأسهم والسندات كأداة سريعة لتسييل الاستثمارات. لذلك أرى أنه من المهم للحكومة أن تنفذ ما أوردته خطة التنمية التاسعة في الفصل الخاص باقتصاد المعرفة من تنمية ودعم شركات وصناديق رأس المال الجريء كواحدة من أبرز التحديات نحو تحويل المعرفة إلى منتجات، وما أقرته في الفصل الخاص بالخدمات المالية أن هناك ندرة في شركات رأس المال الجريء رغم أهميتها في تمويل الاستثمارات عالية المخاطر وإدارتها، وأهمية تبني السياسات التي من شأنها تحفيز المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية على التوسع في الصيغ الإسلامية للتمويل ومن أهمها التمويل بالمشاركة، إضافة إلى الاهتمام بتنمية قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة والذي يدخل به ضمنيا تنمية المشاريع الابتكارية والإبداعية بالتمويل والرعاية. فوجود شركات وصناديق رأس المال الجريء ضرورة للاقتصاد للتمكن من تحويل الأفكار والابتكارات الإبداعية إلى مخرجات اقتصادية ذات ربحية تسهم بشكل فعال في الناتج الاقتصادي المحلي خاصة مع انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية وما يعنيه ذلك من زيادة المنافسة أمام منتجات الدول الأخرى والحاجة إلى دعم الإبداع والابتكار لمواجهة هذه المنافسة الشرسة. ومن المهم أن نعي أهمية تمويل الابتكار الموجه لتلبية الحاجة المحلية أولا مثل تخفيض تكلفة تحلية المياه أو استغلال الطاقة الشمسية التي تسطع على بلدنا كل يوم أو ابتكار نوع جديد من البناء قليل التكلفة والعازل للحرارة. وفي الأخير، أشير إلى ما أوضحه مؤشر جاذبية رأس المال الجريء The Global Venture Capital and Private Equity Country Attractiveness Index من التحسن المتزايد في بيئة الأعمال في المملكة الجاذبة للرساميل الجريئة عبر انتقالها في ترتيب المؤشر من المركز 36 في العام 2007م إلى المركز 25 في العام 2011 من أصل 80 دولة يرصدها المؤشر. لذلك نسأل مع هذه الجاذبية، أين يختبئ رأس المال الجريء إلى الآن؟
إنشرها