Author

رئيس جديد للهند مسلح بخبرة سياسية طويلة

|
في 23 تموز (يوليو) الماضي وقع اختيار المجمع الانتخابي المكلف باختيار رئيس للجمهورية الهندية للسنوات الخمس القادمة على مرشح حزب المؤتمر الحاكم، السياسي العجوز براناب موخيرجي كثالث عشر رئيس للجمهورية، وأول بنغالي يحظى بهذا المنصب الموصوف بـ ''الشرفي''، على الرغم من أنه يعطي صاحبه مسؤولية تسمية رؤساء الحكومات (عندما لا يكون هناك حزب يتمتع بالأغلبية المطلقة في مجلس النواب)، ويعطيه أيضا صلاحية حلّ البرلمان متى ما وجد في ذلك مخرجا لأزمة سياسية. وبهذا سيخلف موخيرجي براتيبا باتيل، المرأة الوحيدة التي تقلدت منصب رئاسة الجمهورية الهندية منذ الاستقلال في 1947. ويأتي موخيرجي إلى هذا المنصب مسلحا بخبرة ثقافية وسياسية وإدارية واقتصادية وتشريعية طويلة تزيد على أربعة عقود، بدأها كمحاسب في دائرة البريد والتلغراف في كلكتا، قبل أن يدخل عوالم التدريس الجامعي، والمحاماة، والكتابة الصحافية، وإدارة الحملات الانتخابية (أدار بنجاح حملة السياسي الهندي المعروف كريشنا مينون، أشهر من تولى وزارة الدفاع في حقبة جواهر لال نهرو)، وقبل أن يشق طريقه في دهاليز حزب المؤتمر الهندي الذي رشحه للتنافس على مقعد في مجلس الشيوخ في 1969. وعلى الرغم من انشقاقه عن هذا الحزب في 1986، وتأسيسه حزبه الخاص تحت اسم حزب المؤتمر الوطني الاشتراكي، فإنه سرعان ما عاد بعد سنتين إلى حضن حزبه الطبيعي الذي كان حزب والده أيضا (أبوه كان من زعماء حركة التحرير الوطني تحت قيادة حزب المؤتمر، ثم صار نائبا عن الأخير في الجمعية التشريعية لولاية البنغال الغربية ما بين 1952 و1964). من هنا قيل إن اختياره رئيسا للجمهورية سيُخسر حزب المؤتمر رجلا ذا كفاءة وخبرة ومهارة لا يمكن تعويضها، وفي الوقت نفسه يكسب القصر الرئاسي شخصية تملك علاقات واسعة مع مختلف الأطياف السياسية، وبما يمكنها من جبر الكسور الكثيرة التي ظهرت في المشهد السياسي الهندي خلال العقود الأخيرة، ومن تجاوز احتمالات تعقد المشهد واضطرابه أكثر أثناء الانتخابات البرلمانية القادمة في 2014. فإنْ تمكن موخيرجي أنْ يجمع الصفوف ويقلل من التشظي السياسي الحالي، ويستخدم الأعراف الدستورية، ومواهبه في الإقناع والصبر، في تقريب وجهات النظر بين الخصوم، وبين رموز الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، فإنه سيعطي منصبه ألقا ونفوذا مفقودين منذ زمن الرئيسين سانجيفا ريدي وفينكاتارامان اللذين كانا بحق سياسيين محترفين، على خلاف كل من جاء بعدهما ممن لم يكونوا من ذوي الأوزان السياسية الثقيلة. أثناء العقود الأربعة الماضية، شغل موخيرجي، المولود في ولاية البنغال الغربية في 1935، العديد من المناصب الوزارية والتشريعية الاتحادية المهمة التي أبلى فيها بلاء حسنا. فما بين 1973 و2012 تقلد حقائب التنمية الصناعية، والنقل، والمصارف، والتجارة، والصلب والمناجم، والدفاع، والمالية، والخارجية. كما تقلد رئاسة مجلسي النواب والشيوخ، إضافة إلى ترؤسه في فترات مختلفة مجلس محافظي صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومصرف التنمية الآسيوي، والمجموعة الوزارية لمجموعة الـ 24، والمجلس الوزاري لمنظومة ''سارك'' الجنوب آسيوية، ومفوضية التخطيط القومي في الهند، والمعهد الهندي للإحصاء في كلكتا. لكن رغم توليه كل هذه المناصب فإن القول الدارج في الهند هو أن موخيرجي فاته القطار أكثر من مرة لتولي الموقع الذي يستحقه، فحينما اغتيلت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في 1984 كان يأمل في خلافتها، خصوصا أنّها كانت تثق به وتلقبه بـ ''رجل كل الفصول''، لكن المنصب ذهب إلى ابنها راجيف. وفي 2004 صدم حينما علم أن حزب المؤتمر تجاوزه، واختار ''مانموهان سينج''، الشخصية التي كان هو قد عينها في 1982 محافظا للبنك المركزي الهندي، كرئيس للحكومة. وفي 2006 راهن على احتمال حصوله على منصب نائب رئيس الوزراء، لكن هذا لم يحدث أيضا. وفي 2007 منعته زعيمة الحزب الحاكم سونيا غاندي من الترشح لرئاسة الجمهورية كي تعطي الفرصة لبراتيبا باتيل. ولئن كان منصب وزير المالية الذي تقلده الرجل أكثر من مرة حقق فيه نجاحات منحته الشهرة والتقدير والنفوذ، ولاسيما في عام 1982، زمن أنديرا غاندي، حينما استطاع سداد قروض البنك الدولي لبلاده قبل موعد حلولها، فإن منصب وزير الخارجية التي أسنده إليه رئيس الحكومة الأسبق ناسيمها راو ما بين 1995 و1996، ثم أسنده إليه مرة أخرى رئيس الحكومة الحالي ''مانموهان سينج'' ما بين 2006 و2009 كخليفة لنيتوار سينج الذي تورط في تعاملات غير قانونية ضمن ما عرف بصفقة ''النفط مقابل الغذاء'' هو المنصب الآخر الذي أبدع فيه بحنكته وخبرته الطويلة. والمعروف أنه بعد إقصاء الوزير سينج ظلت حقيبة الخارجية شاغرة لفترة طويلة قاربت السنة، فيما كانت العلاقات الدولية تدار مباشرة من قبل مانموهان سينج، والمهام الدبلوماسية الخارجية يكلف بها وزراء الدولة أو وكلاء الخارجية. ونشأت عن هذا إشكالات بروتوكولية فضل معها وزراء الخارجية الأجانب تأجيل زياراتهم للهند، بل أثار هذا الوضع تساؤلات مصحوبة بالاستغراب في الداخل والخارج حول ترك هذه الحقيبة المهمة شاغرة في وقت كان فيه دور الهند الدولي يتنامى. لم يكن للأمر بطبيعة الحال علاقة بخلو الهند من شخصيات دبلوماسية مؤهلة، بقدر ما كان له علاقة بحرص سينج وغاندي على دقة الاختيار هذه المرة لكيلا يتكرر ما ألحقه الوزير السابق من تشويه بسمعة الدبلوماسية الهندية، وما أضفاه على سياسات البلاد الخارجية من مسحة يسارية ذكرت المراقبين بالسياسات الهندية زمن الحرب الباردة. هذا ناهيك عن رغبتهما في الإتيان بشخصية محنكة تستطيع بنجاح إدارة المستجدات الكثيرة المرتبطة بملفي علاقات نيودلهي بكل من باكستان والصين، وأشكال التعاون مع القطب الأمريكي، ولا سيما التفاهم حول الشؤون النووية. ومما تسرب أنّ سينج وغاندي ظلا يبحثان على مدى أشهر عدة عن الشخصية المناسبة إلى أنْ اقتنعا بأن أفضل من يمكن أن يقود الدبلوماسية الهندية ويدافع عن سياسات الحكومة الخارجية في البرلمان في ذلك المنعطف المهم هو وزير الدفاع موخيرجي. غير أن سينج وغاندي اصطدما بتردد الرجل، وتفضيله البقاء كوزير للدفاع على إشغال حقيبة كالخارجية تتطلب مهامها رحلات خارجية مستمرة، وبالتالي الابتعاد عن الشأن الداخلي الذي هو محل الاهتمام الأول للساسة الهنود، ومصدر نفوذهم وقوتهم الانتخابية. وهكذا تطلب الأمر عدة أشهر إضافية لإقناع موخيرجي بقبول المنصب. ومن المفيد هنا التذكير بأن أحد الأسباب الأخرى لتردد موخيرجي في قبول حقيبة الخارجية هو حقيقة أنّ رئاسة الحكومة في الهند كانت على الدوام ذات تأثير قوي على رسم السياسات الخارجية، والتدخل في تفاصيلها الصغيرة، مع بعض التباينات صعودا أو هبوطا بحسب قوة ونفوذ وخبرة ورغبة من يجلس على كرسيها.
إنشرها