لماذا فقد العرب قصب السبق في العلم والمعرفة؟

كنت قد وعدت قرائي الكرام بالتحدث عن أهمية توطين التربية والتعليم لحوز قصب السبق في العلم والمعرفة، وكيفية تطويعهما لإحداث تنمية شاملة، والتي لا بد أن يكون من شروطها إلغاء الاعتماد الهائل على الخارج، ولا سيما في دول الخليج العربية.
وإن كان للتاريخ درس يجب ألا ننساه علينا جميعا العودة إلى النهضة العربية والإسلامية التي حدثت في العصر العباسي، حيث صار العلم والمعرفة سراجاً ينير درب العرب والمسلمين في بغداد والشام والقاهرة والأندلس، بينما كانت الدنيا من حولهم، ومن ضمنها أوروبا، تقبع في ظلام دامس.
أول عمل قام بها رواد النهضة في هذا العصر الذهبي، الذي امتد أكثر من أربعة قرون، كان العمل الحثيث لتوطين العلم والمعرفة في ذلك الحين. ونجاح العرب الباهر في هذا المسعى كان مرده، في رأيي المتواضع، التركيز على دور اللغة العربية وجعلها لغة العلم والمعرفة.
وفي غضون أقل من قرن احتلت العربية الصدارة، وأزاحت الأرامية (السريانية) التي كانت حينئذ لغة العلم والمعرفة والتجارة ومعها اليونانية.
كيف حدث ذلك؟ أظن أن الجواب يعرفه كل عربي تلقى تعليمه المدرسي. حدث ذلك لأن خلفاء بني عباس ووزراءهم ومؤسساتهم وضعوا ميزانيات دولتهم تحت تصرف العلماء، حيث وصل السخاء درجة كان بعضهم يزن للمترجم أي كتاب يترجمه إلى العربية من اليونانية ذهباً.
لماذ اليونانية؟ لأن علوم المنطق والفلسفة – وهذه كانت تشمل الطب والرياضيات والصيدلة وغيرها – كانت باليونانية. وهكذا بدأت اللغة العربية تحتل مكانتها في صدارة اللغات في ذلك العهد، واستوطنت واستوعبت كل العلوم من خلال حركة ترجمة نشطة ربما لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
وهذه السياسة الرشيدة جلبت كل علوم الدنيا إلى بغداد، وجعلتها في متناول كل قراء العربية في ذلك الحين. ولم يتطلب الأمر إرسال آلاف الطلبة إلى الحواضر اليونانية أو غيرها من مراكز الثقافة والأدب والمنطق لتلقي العلم والمعرفة. العرب في زمن العباسيين جلبوا علوم الدنيا إليهم، وذلك بتوطينها، أي جعلها عربية.
العباسيون سبقوا توماس جيفرسن، واحد من أشهر الرؤساء وأكثرهم تأثيرا في تاريخ الولايات المتحدة وبروزها كدولة عظمى، في دعوته إلى توطين الدراسات العليا، وذلك بمنع الطلبة من الدراسة في الخارج، بل جلب الخارج إليهم.
وأشرنا في رسالة الأسبوع الفائت إلى المفهوم الجيفرسوني هذا وقلنا إن السويد نادرا ما ترسل طلبتها إلى الخارج للحصول على شهاداتهم العليا، لأنها نجحت في توطين التربية والتعليم ومعهما العلم والمعرفة، وذلك بمنح اللغة الوطنية دوراً بارزاً من خلال حركة ترجمة هائلة وتدريس متطور للغات الحية، ولا سيما الإنجليزية.
ما يحدث اليوم في الدول العربية لا يبشر بالخير، حيث نرى تهميشاً ليس فقط للغة الوطنية، بل حتى للمواطن مقارنة بالأجنبي، ولا سيما القادم من الدول الغربية وإن كان يحمل المؤهلات ذاتها، ونلاحظ كذلك اضمحلالاً لدور الترجمة لا يليق على الإطلاق لا بالإمكانات الهائلة التي يمتلكها العرب من مادية وغيرها ولا بدورهم ومكانتهم في الحضارة الإنسانية.
مَن باستطاعته تفسير الإحصائيات الأخيرة لمنظمة اليونسكو التي تضع مؤشرات لدور الدول واللغات في الترجمة على مستوى العالم، التي تقبع فيها العربية والدول الناطقة بها في أسفل السلم وتتقدمها دول مثل السويد والدنمارك، حتى لاتفيا وصربيا وألبانيا وجمهورية بلاروسيا ولثوانيا وسلوفينيا وكرواتيا؟
وإن تحدثنا عن نقل العلوم إلى اللغات الحية فيؤسفني القول إن لغات لا يتحدث بها إلا بضعة ملايين مثل الكرواتية والسلوفينية والليثوانية والفنلندية والدنماركية والجيكية والنرويجية والسويدية والبلغارية والاستونية والرومانية تسبق العربية بأشواط كلغة مستهدفة - أي تتم الترجمة إليها.
ألا تحفز هذه الحقائق أصحاب الشأن على أن يشمروا عن سواعدهم ويهبوا في نهضة تشبه ما قام بها أصحاب الشأن من أسلافهم من العباسيين؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي