صراع النفوذ في ديمقراطية الجماعات

الديمقراطية نظام تتنافس فيه الأحزاب والتيارات ببرامجها السياسية والاقتصادية على كسب ثقة الناخبين للحصول على الحكم عبر صناديق الاقتراع، وتلعب فيه وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني دور المراقب على أداء الحكومة. وقد تعتبر الجماعات الدينية مجموعات ضاغطة تسعى إلى التأثير على الحكومة بغية الحصول على مصالح وامتيازات لأفرادها.
لم تكن الجماعات الإسلامية وحتى الطرق الصوفية منذ بداية الديمقراطية التعددية في تركيا بعيدة عن الحياة السياسية وحتى التي ترفع شعار ''أعوذ بالله من السياسة'' غارقة فيها حتى النخاع. وكانت مشاركة تلك الجماعات في الحياة السياسية من خلال المساومات مع الأحزاب لترشيح عدد من أعضائها أو تأييد أحد الأحزاب في مقابل تسهيلات لممارسة أنشطتها وتوسيع نفوذها. ووسط هذا التنافس بين الجماعات هناك جماعة متهمة منذ فترة طويلة بأنها تسعى إلى السيطرة على الدولة بأكملها.
جماعة فتح الله كولن، وهي إحدى الجماعات النورسية التي تنتمي إلى الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، صاحب رسائل النور، كانت تتهمها سابقا القوى العلمانية بمحاولة السيطرة على الجيش والشرطة والمؤسسات الحكومية الأخرى، إلا أن هذه المرة يأتي الاتهام نفسه من الإسلاميين، من داخل حكومة أردوغان تحديدا، ما أدى إلى نشوب أزمة بين الحزب الحاكم وجماعة كولن لم تنته فصولها حتى الآن.
تعود بداية الأزمة إلى تعيين هاكان فيدان رئيسا للاستخبارات التركية وتشديد المراقبة على حركة تعيين البيروقراطيين في الدوائر الحكومية، بعد أن رصد التوسع في تعيين البيروقراطيين المحسوبين على جماعة فتح الله كولن، وردَّت الجماعة على هذه الخطوة باستدعاء المدعي العام رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان للتحقيق معه بصفته مشتبها به في قضية اللقاءات مع قادة حزب العمال الكردستاني. وهذه الخطوة المضادة اعتبرها أردوغان هجوما يستهدفه مباشرة وقامت الحكومة على عجالة بتمرير قانون من البرلمان لا يسمح بالتحقيق مع رجال الاستخبارات إلا بعد إذن رئيس الوزراء، وهكذا ألبس أردوغان رئيس الاستخبارات الذي أكد أنه لن يسمح بإنشاء دولة داخل الدولة، ثوب الحصانة، ولم تكتف الحكومة بهذه الخطوة، بل قامت بالتعديل في قانون المحاكمات الجزائية وإلغاء المحاكم ذات الصلاحيات الخاصة للحيلولة دون استغلالها من قبل الجماعة في التضييق على خصومها من خلال القضاة والمدعين العامين المقربين منها.
جماعة فتح الله كولن التي تمتلك وسائل إعلام مختلفة وتتمتع بنفوذ قوي يعبر حدود تركيا، دعمت حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان منذ تأسيسه وتحالفت معه خلال السنوات العشر الأخيرة في جهود الإصلاح وتعزيز الديمقراطية ولعبت دورا في إحباط محاولات الانقلاب على حكومة أردوغان، ولكنها منذ اندلاع الأزمة بينها وبين الحكومة التركية بدأت تنتقد حزب العدالة والتنمية الحاكم وسياسته، ومع ذلك ليست هناك مؤشرات حتى هذه اللحظة تدل على أنها قطعت دعمها للحكومة وقررت مواصلة مسيرتها بالتحالف مع حزب سياسي آخر.
يبدو أن أردوغان أيضا يشعر بأن جماعة فتح الله كولن بدأت تبتعد عنه وأن تحالفه معها قد ينتهي في أي لحظة وبالتالي يبحث عن تعزيز قوته السياسية بتوسيع دائرة تحالفاته لتشمل قدر الإمكان كل من ينتمي إلى اليمين المحافظ من جهة، ويسعى إلى إزالة أي منافس عن طريقه قد تتحالف معه الجماعة من جهة أخرى، على غرار دعوة رئيس حزب صوت الشعب نعمان كورتولموش إلى الانضمام لحزب العدالة والتنمية، هو ومعظم أعضاء حزبه، بعد إغلاق الحزب نفسه.
ويدور الحديث حاليا في وسائل الإعلام والأوساط السياسية التركية أن أردوغان أعطى أوامره لأن لا يتم تعيين أي بيروقراطي محسوب على جماعة فتح الله كولن، وأن تُسند المناصب الشاغرة لبيروقراطيين ينتمون إلى الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية الأخرى. وإن صح ذلك، فهذا يعني أن أردوغان عازم على التصدي لمحاولة جماعة فتح الله كولن بسط نفوذها على كامل الدوائر الحكومية وخلق التوازن بينها وبين الجماعات الأخرى، ولسان حاله يقول للجماعة ''أشكركم على دعمكم ولكني غير مستعد لتقاسم السلطة معكم''.
عدم قبول أردوغان تقاسم سلطة حكومته مع جماعة فتح الله كولن حفاظا على إرادة الشعب التي منحته وحده هذه السلطة نقطة إيجابية تسجل في سجل نضاله الديمقراطي إلا أن ما نشهده في تركيا توزيع للمناصب بين الجماعات والطرق الصوفية التي تسعى كل واحدة منها لبسط نفوذها، وإن لم تصل طموحاتها إلى مستوى أهداف جماعة كولن، وتستغل المناصب التي تُسند لأعضائها في سبيل تعزيز قوتها حتى تحصل على مناصب ووظائف أكثر وأكبر، في دائرة مغلقة يظل المواطن العادي الذي لا ينتسب إلى إحدى تلك الجماعات لا محل له من الإعراب أو يبدأ على الأقل سباق التعيين وراء المنتسبين للجماعات بمراحل عدة، ما يجعل فرصة فوزه ضئيلة إن لم تكن مستحيلة.
الجماعات والطرق الصوفية ظاهرة اجتماعية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، ومن الطبيعي أن تتودد الأحزاب السياسية لها حتى تكسب أصوات أعضائها، ولكن المشكلة التي يجب أن يحلها النظام الديمقراطي التركي تحويل الجماعات الدوائر الرسمية والمناصب الحكومية مسرحا لصراع النفوذ وعدم مساواة المواطن الذي يرفض أي انتماء غير المواطنة مع هؤلاء الذين يضيفون إلى المواطنة بيعتهم لجماعة فلان أو علان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي