وقاحة تصريح الرفيق دولغوف لا تعنينا

أن يعرب مفوض وزارة الخارجية الروسية لحقوق الإنسان كونستانتين دولغوف عن ''قلقه الشديد ومخاوف موسكو بشأن استقرار المملكة'' معيب وليس من أصول وآداب البروتوكول الدبلوماسي، وأما دعوته السعودية إلى ''التحرك تجنبا لصراع طائفي'' فهي وقاحة لا تقبلها الأعراف أو المعاهدات بين الدول المتحضرة.
وجاء الرد السعودي قوياً نابضاً؛ كان لا بد لوزارة الخارجية أن تعرب عن استهجانها واستغرابها الشديدين لهذه التصريحات التي تشكل تدخّلا سافرا وغير مبرر بأي حال من الأحوال في شؤون المملكة، ويتنافى في الوقت ذاته مع الأصول والقواعد السياسية والدبلوماسية. لن أزيد كثيراً على بيان الخارجية السعودية الذي استنكر هذا التصريح الروسي العدائي، البيان ذَكّرَ المسؤول الروسي بأن السعودية كانت ولا تزال ''حريصة على احترام قواعد الشرعية وسيادة الدول واستقلالها، بما في ذلك حرصها على عدم التدخل في شؤون روسيا، وسياساتها في التعامل مع الاضطرابات داخل حدودها التي أودت بأرواح العديد من الضحايا''.
ليس لدى أحد أي شك أن صدور التصريح الروسي الغريب يهدف إلى صرف النظر عن المجازر الوحشية والشنيعة التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه، بدعم ومساندة أطراف معروفة تعرقل أي جهد مخلص لحقن دماء السوريين. ولعلي أُذَكّر الرفيق دولغوف بأن بيانه يتنافى تماماً مع تصريح سعادة السفير الروسي في الرياض أوليغ أوزيروف، في حديث سابق مع صحيفة ''الشرق الأوسط''، أن ''موقف موسكو من التعامل مع الملف السوري إنما ينطلق من مبادئ محددة، منها تفادي التدخل الخارجي للشؤون الداخلية السورية.'' لذلك أعتقد أنه كان الأحرى أن يتعلم مفوض وزارة الخارجية الروسية الأصول الثابتة للتعامل بين الدول وأن يتفادى بدوره التدخل في الشؤون الداخلية السعودية.
كذلك لعلي أُذَكّر الرفيق دولغوف بتصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن ''بعض الدول يجب أن تتوقف عن تهديد دمشق بالإنذارات''، وبالتالي فإن بعض الدول يجب أيضاً أن تتوقف عن إهداء النصائح غير الدبلوماسية للسعودية. من متابعتي لسيرة الرفيق لافروف أعلم أنه يعزف الجيتار، بل يكتب القصائد والأغاني، ما يدفعني إلى الاستنتاج أن شخصية عامة بهذه الصفات لا بد أنها تتحلى بروح سمحة ومحبة للسلام وليست مساندة للأنظمة القمعية.
تعوّد العالم سماع التصريحات المتناقضة من الكرملين، فها هو فياتشسلاف دزيركالن الرئيس المساعد للمؤسسة العسكرية التقنية الروسية يؤكد أن موسكو لا تنوي القيام بشحنات جديدة للأسلحة إلى سورية. الجميع يعلم أن موسكو تريد إقناعنا بأنها ملتزمة فقط بالعقود الموقعة سابقاً، لكن الجميع يعلم أيضاً أن موسكو مستمرة في إمداد النظام السوري بالأسلحة، بل إن الشركات الدفاعية الروسية تجري مفاوضاتها مع دمشق وتبرم عقودا عسكرية معها، وأخص بالذكر طائرات تدريب جديدة من طراز ياك 130. هذا التناقض في التصريحات الروسية يدل على تخبط السياسة الخارجية الروسية، فمن جهة نسمع تصريحات عن موقف موسكو من التعامل مع الملف السوري الذي ينطلق من ''وقف العنف من قبل الأطراف كافة''، ومن جهة أخرى تتواصل شحنات الأسلحة الروسية الفتاكة في الوصول إلى دمشق لقمع الثورة الشعبية.
لعلي أيضاً أُذَكّر الرفيق دولغوف باستنتاج لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أنه خلال حملة القمع للمحتجين السوريين ارتكبت قوات الجيش والأمن جرائم ضد الإنسانية بما في ذلك القتل والتعذيب والاغتصاب. ورغم أن الأمم المتحدة دعت إلى فرض حظر السلاح على سورية، إلا أن ألكسندر فومين، مدير وكالة صادرات الأسلحة يؤكد بكل صفاقة أن ''موسكو تنوي مواصلة دعم دمشق في مجال التسلح والمعدات العسكرية تنفيذا لعقود سابقة''. من الواضح أن فومين لم يقتنع بعد أن دعم نظام دمشق بالأسلحة يغذي الانتفاضة الشعبية ويحول المعارضة السلمية إلى جبهة مسلحة، ما ينذر باندلاع حرب أهلية في سورية ستنتج عنها زعزعة الاستقرار في المنطقة. لهذا السبب هناك توجه بتطبيق البند السابع في قرار مجلس الأمن.
وتتوالى تصريحات موسكو المتناقضة وآخرها تصريح نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف لوكالة ''إنترفاكس'' الروسية أن ''سورية لن تحصل على أي أسلحة روسية يمكن استخدامها ضد المعارضة''. إذا كان هذا صحيحاً فماذا عن وصول السفن الروسية الواحدة تلو الأخرى وهي تنقل الأسلحة الفتاكة إلى مرفأ طرطوس السوري ليستخدمها النظام السوري ضد المدنيين الآمنين؟ المضحك في الأمر أن فيتالي تشوركين السفير الروسي لدى الأمم المتحدة يؤكد علانية أن صفقات الأسلحة إلى سورية شرعية ولا تأثير لها في النزاع. لعل الرفيق تشوركين يتعظ مما قاله السفير الروسي في الرياض إن العقلانية هي رغبة الجميع وسعيهم نحو تجنب الكوارث والهزات السياسية.
عودة إلى تصريح دولغوف الذي أبدى فيه حرصه على ''استقرار'' السعودية، لعله من المفيد أن أُذكّر الرفيق دولغوف بأن يهتم أولاً باستقرار الأوضاع في بلده ويهتم بشؤونها الداخلية. لعلي أُذكّره باشتباكات شرطة مكافحة الشغب الروسية المدججة بالسلاح مع متظاهرين كانوا يشاركون في تجمع مناهض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتم اعتقال العديد من قادة المعارضة وفق مشاهد عرضها التلفزيون الروسي، يعني شهد شاهد من أهلها. لعلي أُذكّره باعتقال الشرطة الروسية زعيم جبهة اليسار سيرغي أودالتسوف فيما كان يتحدث أمام المتظاهرين في ساحة بولوتنايا. لعلي أُذكّره باعتقال نائب رئيس الوزراء السابق والمعارض بوريس نيمتسوف. لعلي أُذكّره باعتقال المعارض والمدون ألكسي نافالني، إضافة إلى عشرات المتظاهرين الآخرين الذين انهالت عليهم عناصر الشرطة ضربا بالهراوات الثقيلة.
الحل العقلاني والمتزن هو استمرار التواصل مع روسيا لإيجاد مخرج للأزمة السورية. هذا ليس وقت تصفية حسابات والأخذ بالثأر من أي من الأطراف. تصريحك يا سيد دولغوف يذكرنا بروسيا كما كانت في عصر ''الاتحاد السوفياتي'' الذي نتمنى ألا يعود.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي