استخدام «القوة الذكية» في الرد على النظام السوري

الدور التركي المتصاعد في المنطقة جاء بتساؤلات لم تكن مطروحة من ذي قبل، داخليا وخارجيا، حول النوايا والقدرات والتوجهات. هل تدير تركيا ظهرها لأوروبا؟ هل هي تحلم بإعادة أمجاد الدولة العثمانية؟ ما حجم قدرات تركيا؟ وما إلى ذلك من الأسئلة.. ومن الأسئلة التي برزت في خضم ثورات الربيع العربي ما يتعلق بكون تركيا قوة ناعمة أو قوة صلبة وكيفية استخدام هاتين القوتين.
استهداف الطائرة التركية خارج المجال الجوي السوري وإسقاطها أشعل نقاشا في تركيا حول ضرورة استخدام القوة الصلبة في الرد على جريمة النظام السوري أو عدم استخدامها حفاظا على قوة تركيا الناعمة. وعلى الرغم من وجود غضب عارم على النظام السوري، الذي أساء إلى كرامة تركيا أكثر من مرة، فإن الأغلبية الساحقة من المواطنين الأتراك تعارض فكرة الخوض في الحرب مع النظام السوري في الوقت الراهن بسبب خوفها من وقوع تركيا في الفخ الذي نصبته لها الدول الكبرى لاستنزاف طاقاتها وقدراتها. ومثل هذه المخاوف لدى المجتمع التركي ليست وليدة اليوم، بل هي متأصلة تمتد جذورها إلى انجرار الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية الأولى وانهيارها.
وفي المقابل ترى الأغلبية أيضا عدم السكوت على جريمة إسقاط الطائرة وضرورة الرد على النظام السوري بما يحافظ على كرامة تركيا، لكن دون الانجرار إلى الحرب وهدم ما تم بناؤه في السنوات الأخيرة من النجاحات الاقتصادية والسياسية في الداخل والخارج.
الحكومة التركية لا يمكن أن تحقق الدور الإقليمي المنشود لتركيا بمجرد استخدام القوة الناعمة أو المهارات الدبلوماسية في منطقة تعج بالصراعات والمشاكل الساخنة، خاصة في ظل التنافس الشرس على هذا الدور ووجود قوى إقليمية ودولية لا تحبذ أن تلعبه تركيا. ومن أجل ذلك، لا بد أن تستخدم تركيا قوة ذكية تجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة دون أن تضر إحداهما بالأخرى، بمعنى آخر، استخدام كل من القوتين الناعمة والصلبة في الوقت المناسب والمكان المناسب بناء على المعطيات والمعلومات الصحيحة والدقيقة التي تقدمها الاستخبارات التركية والأجهزة الأخرى.
يبدو أن أنقرة قررت استخدام هذه ''القوة الذكية'' في الرد على إسقاط الطائرة التركية، وبينما تستنفر الجهود الدبلوماسية لدى الأمم المتحدة والناتو ومنظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى الاتصالات والتشاور مع الدول الصديقة، تحشد قواتها على الحدود السورية للرد على العدوان السوري بالشكل الذي تراه مناسبا ضمن إطار القانون الدولي.
تركيا مضطرة للرد على الجريمة التي ارتكبها نظام الأسد بإسقاط طائرة تركية أثناء تحليقها على المياه الدولية في جنوب البحر الأبيض، لتحفظ كرامتها ومكانتها وقوتها الرادعة، لأن السكوت على مثل هذه الاعتداءات من شأنه أن يظهر تركيا كدولة صغيرة وضعيفة غير قادرة على الرد وأن تشجع الأعداء على التمادي في العدوان وتكرار الجرائم والتطاول على تركيا. ولهذا، أعلن أردوغان وغول أن جريمة النظام السوري لن تمر دون عقاب، كما أكَّد مجلس الأمن القومي التركي أنه سيتم الرد بحزم على إسقاط سورية طائرة الاستطلاع التركية ضمن حدود القانون الدولي، ما يشير إلى حتمية الرد إلا أن السؤال الذي ما زال يبحث عن الجواب هو: متى وكيف سيكون هذا الرد؟
عندما نعود إلى خطاب رئيس الوزراء التركي أمام نواب حزبه الثلاثاء الماضي نجد بعض الإشارات إلى كيفية الرد على إسقاط الطائرة، حيث أعلن أردوغان أن قواعد الاشتباك وتدخل القوات المسلحة التركية تغيرت وأن أي عنصر عسكري للنظام السوري يقترب من الحدود التركية سيعتبر تهديدا وخطرا على أمن تركيا وسيشكل هدفا عسكريا، وهذا يعني إقامة منطقة عازلة على الشريط الحدودي عمليا وإن لم يعلن رسميا. كما أشار أردوغان إلى أن نظام الأسد بات يشكل تهديدا واضحا وقريبا لأمن تركيا وأن بلاده ستواصل دعم الشعب السوري حتى سقوط نظام ''الدكتاتور الدموي وزمرته'' الحاكمين في دمشق، بعد أن تطرق إلى أهمية الاقتصاد والعلاقة المتلازمة بينه وبين السياسة الخارجية وأن النجاحات الاقتصادية جاءت مع الانفتاح في السياسة الخارجية، كما أن الاقتصاد القوي من شأنه أن يعزز السياسة الخارجية. ومن هنا، نفهم أن الرد المخطط على إسقاط الطائرة التركية لن يكون على حساب الاقتصاد ولن تتم التضحية بالنجاحات الاقتصادية من أجل الرد على استفزاز نظام متهالك سقوطه قاب قوسين أو أدنى.
الرد الأفضل والأقوى على النظام السوري هو السعي بجميع السبل والوسائل لإسقاطه في أقرب وقت، وهو الهدف المعلن في خطاب رئيس الوزراء التركي، ومن المنتظر أن تصب الجهود التركية بعد الآن في الوصول إلى هذا الهدف، سواء كان عبر تزويد الجيش السوري الحر بأسلحة متطورة وصواريخ مضادة للدبابات والطائرات أو عمليات نوعية ضد أركان النظام السوري، إضافة إلى المبادرات الدبلوماسية على المستوى الدولي.
المنطقة تشهد مخاضا لولادة عهد جديد ومقبلة إلى تحولات كبيرة وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن ربط التحركات التركية الأخيرة بالرد على إسقاط الطائرة فقط، لأن القيادة التركية تدرك أن النظام السوري دمية صغيرة تحركها قوى أخرى وأن اللعبة أكبر من الأزمة السورية، وبالتالي، لا بد من قراءة هذه التحركات في إطار الاستعداد والتأهب للمخاطر والتحديات التي قد تواجهها تركيا وسط التقلبات الإقليمية والدولية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي