Author

ريادة الأعمال .. العودة للجذور

|
مضى زمن طويل على أهل هذه البلاد كانوا فيه مضرب المثل في تحدي الظروف البيئية القاسية وشح الموارد الاقتصادية، أظهروا فيها قدرة فائقة على التكيف ووضع حلول إبداعية محلية وابتكار منتجات جديدة وتطوير القاعدة الاقتصادية لمناطقهم عبر الاعتماد على التصدير للبلدان المجاورة، بل حملتهم آمالهم ومبادراتهم الشجاعة، برعاية الله وتوفيقه، إلى أن يجوبوا العالم شرقا وغربا بمنتجاتهم الحرفية وثرواتهم الزراعية والحيوانية، والأهم أفكارهم الإبداعية، فها هم يؤسسون شركاتهم التجارية الصناعية في بلد كالهند، كان ينظر إليها على أنها آخر الدنيا ولا يصل إليها إلا بشق الأنفس وركوب البحر ومواجهة مصاعب جمة. لم تكن الهند بلدا صغيرا خاليا من المنافسة، بل كانت بلدا مفتوحة يأتيها الناس من كل أنحاء العالم وكانت سوقها حرة والمنافسة على أشدها، ومع هذا استطاع الأجداد أن يأخذوا نصيب الأسد وأن تكون لهم إمبراطوريات اقتصادية، وقس على ذلك ما حققوه من نجاحات في بلاد الشام والعراق، والأمثلة على هذه العصامية الفذة والجسارة في صنع القرار أكثر من أن تحصى، لكن المهم في الأمر إدراك أن الأجداد على الرغم من المعوقات والصعوبات الكبيرة لم يستكينوا ولم يستسلموا ولم يصبهم الإحباط ويلقوا باللائمة على الظروف، لكنهم رأوا أن التحدي الأكبر هو مع النفس عزيمة وإصرارا والبحث عن حلول إبداعية والتفكير خارج الصندوق. لقد كانت ثقافة العمل والجد والاجتهاد في صميم نظامهم الاجتماعي وتقع في وجدانهم. كان العمل، أي عمل، شرفا ينعت صاحبه بالصلاح ويقدر مكانه بين الناس. التوقع الاجتماعي أن الكل كان عليه أن يعمل وينتج إلى أقصى مستويات قدراته وإمكاناته حتى إن كان المردود الاقتصادي ضئيلا، لأن الأساس في قيمة العمل نفسه وليس فقط العائد الاقتصادي. لقد كان من العيب عدم العمل بأي حجة كانت، الكل كان يخرج في الصباح الباكر متسببا (باحثا عن أسباب الرزق) فإيمانهم القوي بالله يجعلهم أكثر صلابة وإصرارا على العمل واستكشاف ما قدر له من رزق. ومع هذا السعي الحثيث للعمل وجمع المال لم يكن المجتمع ماديا خاليا من قيم الرحمة والتكافل والتعاون. وربما هذا ما كان يميز مجتمع الأجداد في أن العمل الفردي والمبادرات الشخصية تصب في إطار النظرة المشتركة للمجتمع والمصلحة الجماعية، وكأنما كان لديهم استراتيجية وإطار عام لتنسيق الجهود وتوجيه الموارد باتزان تام بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. إنه العقد الاجتماعي الذي توافق عليه الأجداد في أن على الجميع أن يجدفوا كل حسب استطاعته وأقصى طاقاته حتى يصلوا إلى مبتغاهم، دون أن يتخلف أحد منهم عن أداء دوره والقيام بمسؤولياته. ثقافة العمل حملوها معهم أينما رحلوا واستقروا، وهو ما ميزهم في تعاملاتهم التجارية مع الثقافات الأخرى، إضافة إلى الخلق الإسلامي الرفيع واتصافهم بالأمانة المهنية والخلقية. ولا تقتصر حالة الإبداع على الجانب الاقتصادي، بل شملت جميع مناحي الحياة في ذلك المجتمع الجميل، لذا لم يكن مستغربا أن يظهر فيهم السياسيون المحنكون والرواد الاقتصاديون والمصلحون الاجتماعيون وطلبة العلم المبرزون والمفكرون المستنيرون والأدباء المميزون. ويأتي في مقدمتهم القائد الوالد الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي استطاع بمبادرته الشجاعة وعزمه وإصراره على الرغم من الظروف وضعف الإمكانات أن يقدم مشروعا رياديا ظنه البعض في ذلك الوقت مغامرة وانتحارا عسكريا وسياسيا، لكن إيمانه بالله ثم القيم الاجتماعية التي تربى عليها في الجد والاجتهاد والتفوق على النفس وعدم الانهزام والتعاون والتكاتف والمشاركة، تمكن من تأسيس دولة مبنية على الحب في الله وتطبيق شرعه وتحقيق الأمن والأمان. ولذا يكفي أن يكون الكيان في المملكة العربية السعودية دليلا ساطعا وشاهدا حاضرا على تميز مجتمع الأجداد بقيمه وإنجازاته وتضحياته وتجاوز التحديات والعقبات بقلوب مؤمنة بـ''وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى''. إن استذكار هذا التاريخ الثري للأجداد الأفذاذ المملوء بالدروس والعبر أمر في غاية الأهمية ونحن نخوض غمار تجربة التنمية وما زلنا نحاول الوصول إلى مستويات أعلى من التحضر والتطور الاقتصادي والصناعي ووضع حلول ناجعة لمشكلاتنا الاجتماعية ومن أبرزها مشكلة البطالة التي تطول الجميع بتأثيراتها السلبية المتعددة. وهنا يبرز تساؤل مهم: لماذا تحول المجتمع من قيم الإنتاجية وحب العمل والإنجاز كما كان عليه الأجداد إلى أخذ الكثير بأقل القليل، وذهب الشباب يبحثون عن الأمن الوظيفي ويقدمون راحة النفس والتراخي على الإنجاز لتخبت جذوة المبادرة والتطلع للأفضل والمجازفة. ربما أحد أهم الأسباب هو الطفرة الاقتصادية، والاقتصاد الريعي الذي غيب العلاقة بين الإنتاج والدخل، وأثرت الوفرة المالية في ثقافة حب العمل، فغياب الحاجة ولو ظنا هو غياب للاختراع والابتكار والبحث عن الأفضل وتحقيق الإنجاز. كما أن التوسع في القطاع الحكومي أدى إلى سيطرة الوظيفة الحكومية ومغرياتها السلطوية والاقتصادية والمكانة الاجتماعية وتدريجيا انجرف إليها الشباب، ومع مرور الوقت أصبح البحث عن الأمان الوظيفي والاستكانة في المكاتب الفارهة والمكيفة والمريحة هدفا في حد ذاته. إن علينا العودة للجذور إذا ما أردنا إعادة تثقيف المجتمع من جديد وإحياء قيم العمل والإنتاجية في نفوس الشباب. والسبيل إلى ذلك في تشجيع ريادة الأعمال والمبادرات الخلاقة وتوفير المناخ المحفز على المجازفة والمخاطرة المحسوبة. إن الأمان الوظيفي يقع عائقا أمام تحول الشباب نحو العمل الحر، كما أن المنافسة الشرسة من الوافدين ونظام الاستثمار الأجنبي يصعب من عملية انخراط الشباب في السوق، وإذا صح ذلك فإن على الدولة تبني سياسة تمنح فيها المشروعات الصغيرة حصة من المشاريع الحكومية الكبيرة خاصة تلك الشركات التي تكون فيها السعودة 100 في المائة، كما يجدر توجيه نسبة كبيرة من القروض الاستثمارية الحكومية لتلك المشروعات. وقد يكون تبني استراتيجية وطنية يؤسس فيها لصناعات ذات مستويات متعددة، بحيث تكون الشركات الصغيرة والمتوسطة روافد للشركات التحويلية. ريادة الأعمال الحل الأمثل للبطالة، لكن تستلزم إعادة النظر في سياسات الإنفاق الحكومي لتكون أكثر فاعلية في إحياء قيم العمل والعودة للجذور.
إنشرها