Author

انطفأت النار الإغريقية أم أن الجمر لا يزال تحت الرماد؟

|
أشرت في أول مقال لي حول أزمة الرهن العقاري (2008) بعد تفجرها في الولايات المتحدة، إلى أن التقديرات التي تذهب إلى أن ذيول تلك الأزمة سوف تبقى معنا ما بين أربع وسبع سنوات، مع ميلي للمدة الأطول. وقد لامني كثيرون متهمين إياي بالتشاؤم. كما أشرت في مقال آخر حول الموضوع في نهاية عام 2011 إلى أنه بعدما بدأت الاقتصادات الأوروبية والأمريكية بالانتعاش في عام 2010، برزت أزمة الديون السيادية، خصوصاً في مجال السندات الحكومية لدول منطقة اليورو، وأبرزت العلاقة بين الأزمتين، حيث إن أزمة الرهن العقاري أجبرت الحكومات (خصوصاً الأوروبية) على شراء بعض أصول بنوكها كي توفر السيولة اللازمة لتحريك الاقتصاد ولمنع إفلاسها. وفي سبيل ذلك لجأت تلك الحكومات إلى إصدار سندات لتمويل هذه العملية، مما زاد من مديونياتها. وتوقعت أن تستمر هذه الأزمة لثلاث سنوات أخرى على الأقل. في نهاية يوم 29 فبراير 2012 صفق الجميع لتوصل وزراء مالية منطقة اليورو بعد 13 ساعة من المناقشات المتواصلة إلى إقرار برنامج لمعالجة الديون اليونانية. سأحاول إلقاء الضوء على مشكلة ديون الحكومة اليونانية والحلول التي وضعت، وهل تؤدي هذه الحلول إلى نهاية سعيدة لتلك الأزمة. وما تبعات ذلك على الاقتصادات الأوروبية، وما علاقة ذلك باقتصادات الدول العربية وعلى الأخص دول مجلس التعاون. النار الإغريقية يبلغ مجموع ديون الحكومة اليونانية والجهات التي تكتسب الصفة الحكومية نحو 350 بليون يورو. وهي على شكل قروض وسندات والتزامات أخرى. من هذه الديون 206 بلايين يورو على هيئة سندات، جزء كبير منها يحل أجل سداده خلال أقل من ثلاث سنوات. وهذه السندات مقسمة إلى قسمين، معظمها (177 بليون يورو) يحكمه القانون اليوناني. والمتبقي (29 بليون يورو) يحكمه القانون البريطاني. تتلخص الحلول التي وافق عليها وزراء مالية منطقة اليورو في اجتماعهم الماراثوني بالتالي: 1 – شطب ما يقارب 110 بلايين من قيمة السندات (أو في حدود 53%)، وإعادة جدولة المتبقي عن طريق إصدار سندات جديدة لمدد تراوح بين 11 و30 سنة وتخفيض سعر الفائدة على هذه السندات الجديدة بمتوسط نسبته 1.5 في المائة وجعل جميع السندات الجديدة خاضعة للقانون البريطاني (بدل اليوناني). تكمن أهمية هذه الخطوة الأخيرة في عاملين: الأول: أن الحكومة اليونانية لن تستطيع بعد الآن تخفيض قيمة هذه السندات بقرار حكومي، كما حصل في حالة السندات السابقة (177 بليونا) التي تم تخفيضها بناء على اجتهاد أحد محامي الحكومة اليونانية. بل لا بد أن يتم الاتفاق مع جميع حاملي هذه السندات الجديدة قبل أي تخفيض. كما أنه في حالة عدم قيام الحكومة اليونانية عن دفع قيمة هذه السندات في الوقت المحدد سيستطيع حاملوها الحجز على ممتلكات الحكومة اليونانية في الخارج. الثاني: أن هذه السندات ستظل مقومة باليورو حتى لو خرجت اليونان من العملة الموحدة. فلا يمكن تحويلها إلى الدراخما. علماً بأن حاملي السندات اليونانية الخاضعة للقانون البريطاني حصلوا على 15 في المائة من قيمة سنداتهم نقداً قبل أن يوافقوا على إعادة الجدولة، وهو الذي لم يحصل لحاملي السندات الأخرى. 2 - إضافة إلى ذلك وافق وزراء المالية على صرف 130 بليون يورو على دفعات كقرض من برنامج التوازن الأوروبي، إضافة إلى إمكانية حصول اليونان على ما يعادل 28 بليون يورو من صندوق النقد الدولي كتمويل مواز. وهناك احتجاجات من قبل الدول النامية على هذا المبلغ الأخير على اعتبار أن الدول الأوروبية دولاً غنية، وبالتالي تستطيع تحمل هذه الأعباء منفردة وأن موارد صندوق النقد الدولي يجب أن تذهب للدول النامية. لكن هذه الاحتجاجات لا يتوقع أن تحجب صرف هذا المبلغ. ويأمل وزراء المالية أن تقود كل هذه الإجراءات إلى تخفيض نسبة الديون الحالية للحكومة اليونانية من مستواها الحالي البالغ 160 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما نسبته 120 في المائة في عام 2020. بشكل عام يمكن الخروج بعدد من الاستنتاجات في ضوء هذا البرنامج: 1 – إن هذا البرنامج يمكن أن يمثل سابقة أو أنبوب اختبار لاية دولة من دول اليورو تعاني من مشكلات مماثلة قد تضطرها إلى إعادة هيكلة ديونها مثل البرتغال وإيرلندا وإسبانيا وحتى إيطاليا. فخصم 53 في المائة من الديون أسهل للسياسيين من فرض برنامج تقشف. 2 – إن هذا البرنامج يعطي المستثمرين فكرة حول مدى جودة سندات الحكومات الأوروبية والمخاطر التي قد تتعرض لها. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن كلا من البنك المركزي الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي استطاعا الحصول على إعفاء من خصم قيمة السندات اليونانية التي يحتفظ بها كل منهما، والتي تزيد على 40 بليون يورو، وذلك باستخدام حق الأفضلية. كما حصل دائنو البنوك اليونانية على إعفاء مماثل. 3 – إنه يخلق مشكلة جديدة لشركات التأمين تزيد من مخاطر هذه السندات. فهل تتحمل شركات التأمين الخسارة عندما تعاد جدولة هذه السندات حتى عندما توافق أغلبية حاملي هذه السندات على إعادة الجدولة. لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل سيؤدي هذا البرنامج إلى نهاية سعيدة للمأساة اليونانية؟ إن عددا من المختصين لا يعتقد ذلك ويرى أنه لا بد من إعادة الجدولة مرة أخرى للأسباب التالية: أ – إن مبلغ الدين الحكومي اليوناني المتبقي لا يزال كبيراً إذا أخذ في الاعتبار حجم الاقتصاد اليوناني. ب – إن تسديد جزء من الدين المتبقي عن طريق إصدار سندات جديدة سوف يزيد الأعباء المالية على الحكومة اليونانية لأن تكلفة هذه السندات الجديدة ستكون عالية. ج – تبقى مشكلة البنوك اليونانية التي ستحتاج إلى إعادة رسملة تقدر بـ 45 بليون يورو، ستتحمل الدولة جزءاً كبيراً منها. د – إن المشهد السياسي اليوناني قد يتغير في شهر مايو القادم نتيجة للانتخابات التي ستتم في ذلك الشهر. #2# الانعكاسات الأوروبية إذا نظرنا إلى الحلول التي وضعت للتعامل مع الأزمة اليونانية في إطاراها الأوروبي نجد أنه صاحب هذه الحلول إجراءات أخرى تتسم بالعمق والجدية والرغبة الأكيدة في حل مشكلة الديون السيادية الأوروبية والتعامل بمسؤولية مع أزمة اليورو، ومن ذلك: 1 – إقرار معاهدة الاستقرار المالي التي في ضوئها حدد سقفاً أقل وأكثر صرامة لنسبة العجز المسموح به في ميزانيات الدول الأوروبية التي استقبلت بكثير من التفاؤل. 2 – توسيع برنامج الأزمات الأوروبي وزيادة موارده إلى ترليون يورو وتحويله إلى صندوق دائم للاستقرار المالي مع السماح له بالاقتراض، وتمكين الدول الأوروبية التي قد تتعرض لأزمات مالية من اللجوء إليه وفق شروط مرنة، مع إمكانية حصوله على موارد إضافية من صندوق النقد الدولي. 3 – قيام البنك المركزي الأوروبي بإطلاق برنامجه المسمى "إعادة التمويل طويل الأجل" الذي بموجبه وفر البنك مبلغاً يصل إلى تريليون يورو على هيئة قروض تقدم للبنوك الأوروبية لمدة ثلاث سنوات بسعر فائدة منخفض نسبته 1 في المائة، وذلك بهدف حل مشكلة السيولة لدى هذه البنوك وتشجيعها على الإقراض للشركات والمؤسسات ومن ثم تحريك الاقتصاد. وقد تلقفت البنوك هذا البرنامج الذي سيحل سداده في عام 2014. في مقابل ذلك يجب ألا يغيب عن بال المتابع أنه لا يزال أمام الأوروبيين طريق طويل للقضاء على ذيول هذه الأزمة المالية المستحكمة. فعلى سبيل المثال: أ- نجد أن البنوك الإسبانية وحدها لديها ما يقارب 200 بليون يورو على هيئة قروض للقطاع العقاري المنهار هناك، إضافة إلى ما تحتفظ به من قروض وسندات للحكومات الأوروبية. ب - إن اتفاقية صندوق الاستقرار المالي مهددة بإعادة طرحها للنقاش من قبل عدد من الدول الأوروبية بما في ذلك بعض الدول الكبيرة مثل فرنسا فيما لو فاز المرشح الاشتراكي هولاند. ج – إن برنامج الإقراض الجديد للبنك المركزي الأوروبي قد رفع أصول هذا البنك إلى ما يزيد على ثلاثة ترليونات يورو، وهو مبلغ يفوق أصول بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، إضافة إلى أن نسبة كبيرة من هذه القروض ذهبت وتذهب لبنوك مفلسة لن تستطيع السداد. هذا الوضع دفع عدداً من الخبراء والمختصين بمن فيهم محافظ البندزبنك (المركزي الألماني) إلى التحذير من أن هذا المستوى يهدد الوضع الائتماني للبنك المركزي الأوروبي. د – إن جميع الحلول المطروحة حتى الآن بما في ذلك حل مشكلة الديون السيادية لليونان، وإقرار معاهدة الاستقرار المالي، وإنشاء صندوق دائم للاستقرار المالي، كل ذلك لا يعالج المشكلة الأساسية وهي انخفاض القدرة التنافسية لدول الجنوب الأوروبي ورفع معدلات نموها الاقتصادي. علاقة ذلك بمنطقتنا العربية يبقى سؤال أخير لا بد من تناوله وهو علاقة كل ذلك بمنطقتنا العربية، وعلى الأخص دول مجلس التعاون. في هذا المجال يمكن إبراز النقاط التالية: 1 – على الدول العربية المصدرة للبترول ألا تعول كثيراً في الوقت الحاضر على دول الاتحاد الأوروبي في زيادة وارداته من البترول والصادرات الأخرى نظراً لأن الأزمة المالية الحالية سوف تحد من تحسن معدلات النمو الاقتصادي لأوروبا لبعض الوقت. وفي هذا الصدد يمكن القول إن مشروع توقيع اتفاقية لإنشاء منطقة تجارة حرة بين دول مجلس التعاون ليس أمراً ملحاً على الأقل في الوقت الحاضر. إذا أضفنا إلى ذلك توجه الولايات المتحدة حالياً نحو الاكتفاء الذاتي في مجالي البترول والغاز بفضل تطور تكنولوجيا استخراجهما من الصخور فإنه لا يعول عليها هي الأخرى بزيادة الطلب من هاتين المادتين. كل ذلك يقود إلى إمكانية انخفاض الطلب على البترول ومن ثم انخفاض سعره، وهذا ينبغي أن يؤخذ في اعتبار الدول العربية المنتجة لهاتين المادتين في ضوء التزاماتها الإضافية التي نشأت بفضل الحراك السياسي الجديد في المنطقة. 2 – على المستثمرين العرب من صناديق سيادية وشركات وأفراد مراعاة زيادة المخاطر على سندات الحكومات الأوروبية وأسهم بنوكها. 3 – سبق أن أكدت أكثر من مرة أن مشكلة الديون السيادية الأوروبية التي فجرت أزمة اليورو تملي على حكومات مجلس التعاون ضرورة وضع حدود ضيقة وصارمة وملزمة لنسبة العجز في ميزانياتها ونسب مديونياتها للناتج المحلي الإجمالي عند إطلاق عملتها الموحدة، وأن يصاحب ذلك التزام أو برنامج مالي يمكن اللجوء إليه عند تعرض أي من الدول الأعضاء لأزمة مالية. 4- إذا استمرت معدلات النمو المنخفضة والمستويات المرتفعة حالياً من عجوزات الميزانية والمديونية الحكومية في الاقتصادات الأوروبية فإن وضعها التفاوضي سيتدهور وسيؤثر سلباً في حصصها في المؤسسات الاقتصادية الدولية. وسوف تعتمد استفادة الدول العربية من هذا الوضع على حسن إدارتها الاقتصادية ومهارة مفاوضيها.
إنشرها