الجنادرية .. لا يصحُّ إلا الصحيح

هذا العام، يكون المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) قد بلغ من العمر 27 عاما، تواصل مستمر لم يتوقف خلالها غير عام واحد بسبب ظروف حرب الخليج الثانية 1990.
ويوم أمس أسدل الستار على آخر دورة من دوراته بعدما شهد إقبالا كثيفا على مدى أيامه الـ 15 خصوصا الثلاثة الأخيرة .. كان فيها الجمهور في غاية الاستمتاع بمشاهد طقوس الماضي وفعاليات الأمس مثلما كان متفاعلا مع أنشطته المنبرية حيثما عقدت، وشكل الجانبان الترفيهي الحركي والمعرفي المنبري جناحي متعة حلقا بضيوفه وتقاسمها الجميع. لكن الجنادرية 27 شهدت إلغاء الأوبريت الغنائي الذي اشتهرت به في مستهل نشاطها، كما تم إلغاء العرضة السعودية بتوجيه من صاحب فكرة المهرجان ورائده بالأساس خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أبت نفسه أن يهزج الفن كعادته في فضاء الجنادرية، بينما الأشقاء العرب في بعض البلدان العربية يعانون الفواجع والألم.
من ناحية أخرى.. شهدت الجنادرية محاولة اقتحامها من قبل مجموعة تزعم ''الاحتساب'' بغرض المناصحة أثارت لغطا واحتجاجا من قبل جمهور المواطنين وأنكرته الدولة وقال عنه الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان: إننا لا نقبل بأي تجاوزات وأمن الوطن أمر لا نقبل المساس أو التلاعب به وهو بالنسبة لنا خط أحمر لن نقبل تجاوزه ولن نقبل بإثارة الفتنة ولن نسمح بوجودها في بلادنا.. وأضاف الأمير متعب: أقول لهؤلاء إن خادم الحرمين الشريفين أعطى الحوار أهمية كبيرة ونحن نؤمن بهذا.. مؤكدا: أن الموجودين من الزوار في الجنادرية هم آباء وإخوة.. ومن يعتقد أنه سينصح فلن يكون أكثر حرصا منهم.
ولا يمكن للنظرة المحايدة والموضوعية حين تجمع بين إلغاء الأوبريت والعرضة وبين المرافعة عن حق العائلات بأن يلتئم شملها في متعة بريئة سوى استشفاف مدى الحرص الذي توليه قيادة الوطن على حماية اللحمة الوطنية وفي الوقت نفسه حماية منجز ثقافي وطني بات علامة فارقة بين مهرجانات العالم، وحرصها كذلك على النأي به من أن يتحول إلى ساحة لفتنة من أي نوع أو أن يكون مصدرا لعدم مراعاة مشاعر إخوة يعيشون في محنة فرضت عليهم.. الأمر الذي يرفع شارة مجد مهرجان الجنادرية عالية في كونه ساحة تواصل وتلاحم شعبي وإنساني كما هو مدرج فرجة حميمة يحق للجميع أن يستمتعوا بعروضه دون وصاية من أحد فهم أصلا أهل سماحة لا يصح عندهم إلا الصحيح طالما الرقابة الذاتية والخلق الفاضل هما سلوك وطني لا يحتاج إلى من يتطفل عليه أو يدعي تقويمه.. خصوصا وسياق الحياة العامة في سائر الأيام هو دائما في نطاق الأسرية الكبيرة في غيرة بعضها على بعض.
إن هاتين العلامتين الفارقتين هذا العام.. لا تخفيان علامة فارقة ثالثة أيضا، إذ من اللافت مع كل هذا الحضور الكثيف ذلكم البُعد الاقتصادي الذي واكب أيام المهرجان في حراك مميز، سواء في المعدلات العالية للإيواء والإشغال في فنادق الرياض أو في الانتعاش الكبير في الأسواق، وقرية الجنادرية نفسها حيث بلغت تقديرات المبيعات فيها نحو 350 مليون ريال.. ما يجعل من ميزانية المهرجان البالغة 14 مليون ريال تمويلا مجديا يتعدى في جدواه المكاسب المعنوية والثقافية إلى عوائد استثمارية محصلتها كانت حقا أكثر من مدهشة.. وحتما هذا المردود سوف ينمو مع تنامي الإضافات المستجدة إليه سواء من خلال تنوع الأنشطة أو تعدد المشاركة من قبل دول عربية وإسلامية.
إن الجنادرية 27 بعلاماتها الفارقة هذا العام تصدح برسوخ أكثر في أنها ستظل مهرجانا كما أراد له خادم الحرمين الشريفين.. أي ساحة لقاء وحوار ومتعة، ليس بين أبناء الوطن وإنما كل الإخوة والأخوات الوافدين وكل من يمم شطره من أهلنا في الخليج والعالمين العربي والإسلامي.. وسوف يظل بتوازنه هذا حريصا على تقديم جوهر عفوية وطيبة هذه البلاد حدثا ثقافيا زاهيا يتألق في كل عام على أرض المودة والوئام بمشاعر حسن الظن والثقة والإحساس بمكانة إنسان هذا الوطن وكرامته رجلا أو امرأة حيث هذه الفعاليات نبع تراث عريق للآباء والأجداد مثلما هي تعبير عن حاضر شديد الحرص على صيانة ذلك الماضي وعلى ضخ المزيد من الألق إليه من رائع الجهد والإبداع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي