قائمةُ مشاعل
.. من أخطر مشاكل عدم استقرار الأمم ما يتعلق بمعاش الناس ورزقهم، عنصر لا يختلف عليه المؤرخون والاجتماعيون والمحللون. ومن أول أبجديات الحصافة في إدارة الأمم توفير سبل الرزق والاكتساب الذي يحفظ كرامة المواطن، ويشغله عنصرا إنتاجيا مضيفا في محصلة الإنتاج العام في البلاد. وتوفير مجالات الرزق بالمعنى المعاصر تسريع عجلة البناء المدروس والحقيقي، وتوسيع قاعدة المشاريع المنتجة والتجهيزية، والتخطيط المسبق لاستيعاب القوى القادمة لتأخذ دورها ضمن تلك الخطط. الكلام الذي أكتبه هنا ليس جديدا، وليس ابتكارا.. إنها أبجديات منطقية، وعجيب أن يغفل عنها أي عقل مدرك، إنك تتعجب أن بلدا يعج بالعقول.. ويفتقر للحلول.
هذه مقالة تحذيرية لكل الأمة، بأن مشكلة من أكبر المشكلات تفاقمت فوق أعتى تصوراتنا - على الأقل تصوراتي أنا - مشكلة جاءتني بشكل قائمة أسماء، والأسماءُ ليست مجرد أسماءٍ بل هي كفاءات، والكفاءاتُ ليست فقط كفاءات بل كفاءات عليا، والقائمة أتتني من مصدر واحد، من الأستاذة "مشاعل جميل العتيق" وهي تحمل الماجستير، وفي قائمتها أكثر من سبعين اسما، حتى الآن جمعتها في يومين.. يعني، لو كان هناك أكثر من مصدر لتتبع هذه المشكلة التي نبتت فطرا متعاظما – بالنسبة لي على الأقل - لكان ما نتحدث الآن هو رأس قمة جبل جليدي، كتلته العظمى تحت سطح الماء.. ولكنه كافٍ لإغراق التيتانيك!
حتى الدول الفقيرة تتحايل، مهما ضنّت عليها المواردُ وضاقت، بكل طاقاتها لتحقيق هذا العنصر، فكيف بالدول التي تتوافر عندها الأموال، والتي يجب ظرفا وموضوعا أن تكون طموحة في استغلالها لبناء أمة متقدمة تعتمد على موارد متعددة باستغلال طاقات وعقول أبنائها قبل أي شيء آخر.
إن معي قائمة الآن.. سميتها "قائمة مشاعل"، وهي تحمل أكثر من سبعين اسما وتقول إن الأسماء تتزايد. كنا في يوم نشكي البطالة بين الشباب القليلي التأهيل، ولم نخرج من ذلك المزلق، ثم صرنا نتوجع لأن حملة الثانوية لا يجدون عملا، ولم نخرج من ذلك المزلق، ثم الشهادات الجامعية أصحابها صاروا لا يجدون وظائف، ولم نخرج من ذلك المزلق.. والآن القائمة التي بيدي أعطت إشارة إشعال الفتيل، إن لم نطفئه في الحال - وأضع تحت في الحال خطا غليظا - من الذين حاولوا وبحثوا عن وظائف كما تقول الشروحات التي أمام كل اسم، ولم يجدوا. إن القائمة تحوي أكثر من سبعين اسما من حملة الماجستير، بل منهم مَن يحمل الدكتوراة.. أتضعون أياديكم على رؤوسكم. لا ألومكم!
ولكني أيضا لم أنته هنا.. أو أن "قائمة مشاعل" لم تنته هنا.. كنا نشكو أن لدينا خريجين لا نستطيع أن نوظفهم خصوصا خريجي بعض العلوم النظرية والإنسانية.. طيب وإن قبلنا ذاك على وجع.. فما رأيكم لو قلت لكم إنهم يحملون تخصّصات عليا في التغذية، وتقنيات التعليم، وتكنولوجيا النانو، والقانون، ونظم المعلومات، والرياضيات، والحاسب الآلي، وإدارة الأعمال، والفيزياء الطبية، وعلوم الكيمياء التحليلية..
علينا حل المشكلة بطريقة الانقضاض السريع، وذاك لن يكون حلا إنما كالضمادة التي توقف النزيف ويبقى الجرحُ موجودا، وأن نركز من الآن على وضع الخطط المتوسطة والطويلة الجادة لتوسيع قاعدة المشاريع واستثمار أموالنا بالداخل وتلك المجمعة بالخارج فيها، وفي البُنى التحتية من المناطق الصناعية المتخصّصة إلى السكن، وتسهيل الحركة والنقل. لأننا ما زلنا في أول الطريق فالقادمون آتون، ويتكاثرون.. وسيطالبون، ومن حقهم، بل من ضرورات حياتهم، أن يطالبوا.
هم طلبوا مني تقديم القائمة لوزير الخدمة المدنية وهو صديق وزميل، وأنا واثق بأنه يتفهم عمق المشكلة، وأتوقع تسلم القائمة مني، فظني بهم حسن. ولكنها ليست مسألة وزير واحد، إنها مسألة حكومة كاملة.
إن لم تكن هذه المشكلة - إن تُركت تتعاظم - أكبر مشكلة ستواجهها الأمّة، فلا أرى أكبر منها سواء سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية.
لم يعد السؤال أين تتجه العربة؟ السؤال: مَن يوقف العربة؟!