بعيدا عن المال .. قريبا من البشر!

عام 2012، سيحمل لنا تباشير خير ونواقيس خطر في آن معا. فميزانية العام الجديد بكل ما تحمله من موارد مالية هائلة، تدفعنا إلى إعادة تقييم أداء الأجهزة الحكومية نحو تحقيق أهداف خطة التنمية التاسعة (2010ـ2014م)، وضرورة قياس أعمال وخدمات تلك الأجهزة على أساس الفعالية والكفاءة. فالتقارير السنوية للأجهزة الحكومية مهما كان ''بريقها'' تعكس رؤية ''أحادية'' لا تصدق مع الواقع الذي تكشفه شكاوى المواطنين.

وهذا ما يحتم علينا وضع مؤشرات لقياس الأداء لكل مسؤول وجهة حكومية، لأن وجودها يعني إمكانية تقييم المؤسسات الحكومية ومحاسبة مسؤوليها على التقصير والإهمال.
تنظيميا، نرى أن الساحة لم تعد تحتمل إنشاء أجهزة حكومية جديدة خلال العام المالي المقبل. فهناك تضخم في القطاع الحكومي يستدعي منا إعادة هيكلة بعض الأجهزة الحكومية ودمج أجهزة ضمن منظومات كبرى حرصا على تنظيم الاختصاص وزيادة للكفاءة والفعالية. كما أن هناك حاجة إلى تصفية الأجواء الحكومية من ثقافة ''اللوم'' وتكريس التكامل بين الوزارات والجهات الحكومية. فلا يعقل أن تلقي وزارتان (التربية - النقل) باللائمة على الأخرى في حوادث المعلمات على الطرق أو أن تتبادل وزارتان أخريان (الزراعة ـ المياه) الاتهامات حول شح مياه الري. والمواطن في نهاية المطاف هو الضحية لهذا المناخ الإداري ''العاصف''.

ورغم التحديات التي تتربص بالوزراء الجدد والحاليين، فإن هناك عوامل أخرى يجب على متخذي القرارات مراعاتها لاستغلال الميزانية المرصودة أمثل استغلال بحيث تتوازى مع رؤية وتطلعات القيادة الرشيدة، ولعل أهم هذه العوامل: تمكين المرأة، وتلبية مطالب الشباب، ومواصلة الحرب على الفساد:

تمكين المرأة

من بين 60 رجلا على المرتبة الممتازة، هناك سيدتان على المرتبة ذاتها تعملان في القطاع العام (نورة الفايز وهدى العميل). وتخطي ''السقف الزجاجي'' لا يتم بين ليلة وضحاها. فالإنجازات التي حققتها المرأة السعودية على كافة المستويات تعزز اليقين بأهمية دورها في المجتمع مهما كانت محاولات التهميش. ولأن عام 2011 كان تاريخيا للمرأة السعودية التي مكنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من دخول مجلس الشورى والمجالس البلدية في الدورات المقبلة، فإننا نتوقع أن يشهد عام 2012 تحولا جذريا بدخول المرأة السعودية إلى مجلس الوزراء. أما على مستوى القطاع الخاص، فسوف نشهد تزايدا للنساء في المناصب العليا، ودخولا مكثفا لهن إلى سوق التجزئة ليس بصفة المتسوقات، وإنما بصفة البائعات في المتاجر النسائية.

تلبية مطالب الشباب

تنحصر أبرز مطالب الشباب في توفير الوظيفة والسكن. ولعل هذا قد أدى إلى تعرض الوزارتين المعنيتين (العمل والإسكان) خلال العام الجاري إلى موجة مطالبات لتسريع طرح الحلول. وقد أفلحت وزارة العمل عندما اتخذت ''صندوق تنمية الموارد البشرية'' (هدف) جوادها الفائز في معركة التغيير داخل أروقة الوزارة قبل أن تتفرغ لمعاركها في سوق العمل. فقد تمكنت الوزارة من تدشين ثلاثة برامج (نطاقات، حافز، طاقات) من أصل 30 برنامجا، تنوي إطلاقها لتوطين الوظائف وتكريس ثقافة العمل لدى الشباب.

إلا أن ردود الفعل كانت متفاوتة حول برامجها. حيث طالب البعض بأن تركز الوزارة من خلال ''نطاقات'' على السعودة النوعية وذلك باحتساب نسب سعودة أعلى للسعوديين القياديين، قياسا على معادلة الموظف السعودي ذي الاحتياجات الخاصة بأربعة سعوديين، وهذا حل من جملة حلول ستسهم في الحد من السعودة الكمية أو الوهمية. كما أن البرنامج الوطني لإعانة الباحثين عن عمل ''حافز'' قد أثارت شروطه جدلا في الساحة أدى إلى قصر أحقية الإعانة على 700 ألف. ومع كل ذلك، يحاول الشاب والفتاة السعودية شق طريقهما إلى سوق العمل بصعوبة في ظل مزاحمة العمالة الوافدة التي تعمل بكل حرية وتبني اقتصادها ''الخفي'' داخل اقتصاد الدولة.

على المستوى الآخر، لم يعرف السعوديون من قبل ما يسمى بـ ''أزمة سكن'' إلا في الأفلام العربية. غير أن هذه الأزمة تفاقمت وصارت جزءا من الواقع السعودي المعاش. وما أدل على ذلك إلا الجدل الذي دار حول نية مجلس الشورى إقرار ''بدل السكن'' ولهفة السعوديين على سماع خبر طيب، لا سيما أن 70 في المائة منهم يقيمون في منازل مستأجرة ـ كما يشير العقاريون ـ و30 في المائة من تلك النسبة يتأخرون عن تسديد الإيجار. وسوف يكون الحال أهون لو كان هناك نظام يضبط الإيجارات ويوحد عقود الإيجار السكني. فقد أشارت ''سامبا المالية'' بداية هذا العام إلى أن نسبة الارتفاع في إيجارات المساكن قد توقفت عند نحو 9 في المائة سنويا، وهي نسبة وصفتها بأنها ''عالية جدا بالمعايير التاريخية والإقليمية''.

لكن الشباب استبشروا خيرا منذ تلك ''الجمعة'' الشهيرة التي أجزل فيها الملك العطاء على شعبه وطلب منهم ألا ينسوه من خالص الدعاء، حيث تم رفع قيمة الحد الأعلى لصندوق التنمية العقارية من 300 إلى 500 ألف ريال، واعتماد بناء 500 ألف وحدة سكنية في جميع مناطق المملكة وتخصيص 250 مليار ريال لذلك. وبعدها بأسبوع تقرر إنشاء وزارة للإسكان وأنيط بها مسؤولية كل ما يتعلق بأراضي الإسكان في مختلف مناطق المملكة، مع حظر التصرف في هذه الأراضي في غير الأغراض المخصصة للإسكان الحكومي. إلا أن الوزارة، سرعان ما فاجأت الشباب في شكواها عن شح الأراضي في بلد شاسع مترامي الأطراف، ما دفع ببطل فيلم ''مونوبولي'' الذي يحكي عن أزمة السكن أن يتبرع بسيارته ليكون مقرا للوزارة الناشئة. ويبقى التحدي الأكبر هو تنفيذ الإرادة الملكية ببناء نصف مليون وحدة سكنية بجانب تسريع المنتظرين ردحا من الزمن على قوائم صندوق التنمية العقارية.

#2#

مواصلة الحرب على الفساد

رغم أنها لم تكمل عامها الأول، إلا أن الطموحات من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تتزايد، لا سيما في ظل إعادة هيكلة الجهات الرقابية الأخرى (هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبة العامة).

فهذه الخطوة التنظيمية التي اعتمدها مجلس الوزراء في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي تستدعي منا التفكير في جدوى دمج كل الجهات الرقابية بما فيها ''المباحث الإدارية'' ضمن مظلة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. على أن يتم تركيز جهود الهيئة على المشتريات والمنافسات الحكومية. وحسنا فعلت الهيئة عندما طلبت إقرار الذمة المالية من موظفيها، فهذه المبادرة تحتاج إلى أن تعمم على كافة مسؤولي الأجهزة الحكومية مع الإفصاح عن حساباتهم المصرفية (الشخصية) قبل تولي المنصب وبعد تركه، سعيا لترسيخ ثقافة ''من أين لك هذا؟''.

هناك ملفات كبرى أمام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أبرزها توفير البيئة الملائمة للاستثمار في السعودية وتحريرها من براثن الفساد الإداري والمالي. وهذا يبدأ من إقامة شراكة استراتيجية مع الهيئة العامة للاستثمار وبقية الجهات ذات العلاقة. حيث يمكن لهذه الجهات مجتمعة أن تتعاون على التغلب على معوقات الاستثمار في السعودية. إذ ليس من المعقول، أن يلجأ المستثمرون السعوديون والأجانب إلى دفع رشا لتسهيل أعمالهم، فالمنافسة شديدة في المنطقة وقد يؤدي هذا إلى خروج رؤوس الأموال من البلد إلى دول مجاورة تتمتع بالمرونة والشفافية.

ماليا، يجب أن تبسط الهيئة يدها على ''حساب إبراء الذمة'' الذي يديره البنك السعودي للتسليف والادخار لتتمكن من صرف الأموال المودعة على المبادرات التي تأتي في مسار النزاهة والشفافية، منها: استحداث ''مؤشر'' يكشف عن مستوى ''الفساد'' في الجهات الحكومية والخاصة، ودعم برنامج الحكومة الإلكترونية (يسِّر).

أخيرا..

الإيرادات والمصروفات مرتفعة كما تظهر من ميزانية 2012، والدولة لم تبخل على المواطنين، لكننا نحتاج إلى مسؤولين يتجابون مع متغيرات الزمن ويتخذون قرارات صائبة وسريعة تصب في صالح المواطنين وتخفف عنهم ضغوط الحياة. فالخير وافر ـ ولله الحمد ـ والمواطن لم يعد يطيق الانتظار في طابور طويل للحصول على قرض سكني أو قبول دراسي أو تلقي العلاج!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي