انتقاد الوزارات 11 شهرا يتحول إلى أمانٍ في ديسمبر
عندما تحضر الميزانية السعودية .. يظهر النور في كل النفق وليس في أوله أو آخره، لكن ''كل خباز يجر النار إلى قرصه''، و''كل يغني على ليلاه''!
تتوزع أموال الميزانية على كل الوزارات والهيئات والمؤسسات والصناديق المعنية، وقبل ذلك يرتفع سقف التمنيات والأحلام بأن تصل الأموال إلى جهة معينة.
فالمستثمرون يرغبون في ضخ الأموال إلى وزارات عدة حتى تزداد السيولة في أيدي المواطنين الذين يطلقون بالتالي العنان لقدراتهم الشرائية، وهذا يصب دائما في جيوب المستثمرين والتجار والمقاولين، فإذا ازدادت ريالات وزارة النقل مثلا فإن مقاول الطرق سيتلقى المزيد من المشاريع والأموال، وهو ينتظر حاله كحال العديد من طبقات المجتمع المختلفة التفاتة من وزارة معينة ليس حبا في الوزارة ولكن رغبة في تعزيز السيولة لديه، وعندما يقترب إعلان الميزانية قد يتحول التاجر الذي كان ينتقد وزارة التجارة إلى شخص يتمنى ''الخير'' لها في كانون الأول (ديسمبر) شهر إعلان الميزانية ، وحتى بعض شركات المقاولات التي لا تتعاطف مع وزارة النقل، تحلم بأن تنكب الأموال عليها في ''تناقض'' يعود لمصلحة المقاولين والوزارة.
يشير الدكتور منصور العسكر أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود، إلى أن التحليل الاجتماعي لسلوكيات بعض المستفيدين من الميزانية يشير إلى أن البعض يطمح أن يكون له نصيبا أوفر، وهم بذلك يقدمون المصلحة الخاصة على العامة كل فيما يخدم مجاله الاقتصادي، وهذا سلوك متوقع وله علاقة بالتنشئة الاجتماعية للأفراد، فقد يكون السلوك الاقتصادي ينمي في الفرد ظهور النزعة الفردية.
ويتمنى مقاولو المباني والعقاريون أن يشهد قطاع العقار نوعا من الضخ يضاف إلى ما تم ضخه سابقا حيث سبق لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أن أمر باعتماد بناء 500 ألف وحدة سكنية بقيمة 250 مليار ريال، وتقديم أراض للبناء عليها، كما رفع حجم القرض العقاري إلى 500 ألف ريال ما ساهم في تحفيز الاقتصاد وحقق عوائد في جميع القطاعات. كما يأتي تخصيص أموال أكثر لوزارة الصحة ليؤكد تنفيذ مشروعات صحية وتطوير الخدمات وبناء مستشفيات جديدة يعود نفعها إلى المقاول ماليا والمواطن صحيا.
أما التاجر فإن رغباته في أجواء الميزانية متعددة وواسعة، فهو يتمنى تدفق الأموال على عدة وزارات وصناديق وهيئات أملا في أن يعود هذا الجريان المالي إلى أحضانه هو. إنه يرغب في أن تزداد ميزانية وزارة التربية والتعليم مثلا حتى يزداد استهلاك الوزارة نفسها وطلابها ومدرسيها وموظفيها، وهو في الوقت ذاته يريد أن تصعد ميزانية وزارة الاقتصاد والتخطيط حتى تزيد قوة السوق الاستهلاكية، وهو يتمنى أن ينال صندوق الضمان الاجتماعي مزيدا من الأموال لكي يرتفع مؤشر شراء هذه الفئة كما يتمنى لعديد من الصناديق والهيئات أن تتلقى ميزانيات أكثر حتى يكتب في دفاتره الحسابية أرباحا أكثر، وهذا يهيئ له بيئة أفضل للعيش الكريم، بينما يتهدد جيب المواطن برفع الأسعار وتضخم جديد، وهذا ما يثقل كاهله ويحمل وزارة التجارة بوزيرها الجديد وهيئة حماية المستهلك أدوارا أخرى وأقوى.
وحول سلوكيات المجتمع السعودي قبل صدور الميزانية، يقول البروفيسور طارق الحبيب المشرف العام على مركزمطمئنة الطبي واستشاري الطب النفسي إن هذه الحالات ليس لها بعد نفسي بينما تعتمد على الجانب الاقتصادي والاجتماعي للفرد والبلد على حد سواء.
ويبدو نظريا أن التجار هم الفئة الأكثر استفادة وهي التي ستنعم بارتفاع أرقام الميزانية من كل حدب وصوب ومن كل وزارة وهيئة ترتبط بالمستهلك الذي يخشى أن تتحول أحيانا هذه الأرقام إلى مصاعب يصنعها جشع بعض التجار.
تدور الأرقام بين تاجر ومستهلك، و''نقل'' ومقاول، و''تربية وتعليم'' وتاجر أيضا، و''صحة'' ومقاول وتاجر و''اقتصاد وتخطيط '' وتاجر أيضا.
أينما ذهبت.. تجد التاجر يتصدر المستفيدين في حالة ارتفاع الميزانية، أما المستهلك فيضع يده على قلبه عندما ترتفع أرقام الميزانية، والحل هو كبح جماح عدد من التجار.
البطالة و''الحافزيون'' لهم صور أخرى من الانتظار والحلم، فارتفاع الميزانية قد يخفض نسبة البطالة ويشعر ''الحافزيين'' بالراحة لأنهم سيضمنون تدفق مكافآت البطالة دون تأخير أو تغيير، وهذا يعني أن السيدات اللاتي يشكلن ما نسبته 80 في المائة من نظام ''حافز'' سيحصلن على مكافآت البطالة وبما أن النساء هن الفئة الأكثر استهلاكا، فإن التجار سيعودون ثانية ليستفيدوا بهذه ''الموهبة النسائية''.
الجدد في المشهد السعودي لهم دورهم في الانتظار الساخن أيضا مثل وزارة الإسكان وهيئة مكافحة الفساد، كما أن موظفي هذه المؤسسات ينتظرون ما ستسفر عنه الميزانية ليضعوا خططهم الآنية والمستقبلية.
ويبقى الحلم واردا حتى لغير السعوديين لأن زيادة الضخ في الميزانية يعني زيادة الطلب عليهم وعلى أعمالهم، لكن الدولة بالتأكيد تتمنى أن تكون زيادة الطلب على المقيمين غير السعوديين متبوع بخطوات قانونية وليست اتجاها خاطئا يتجاوز القانون ويتحدى الخطوط الحمراء بتشغيل الفئة غير النظامية.
وهنا يعود الدكتور العسكر ليؤكد أن النزعة العامة تطغى على الفردية عندما تكون الرؤية والأهداف واضحة، ووضوحهما مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمجتمع، وخلص إلى أن المملكة تعيش أبهى صورها استنادا إلى الرؤية الاجتماعية التي تتبناها خطط التنمية الخمسية، وتأتي الميزانيات التقديرية التي تضعها حكومة خادم الحرمين الشريفين لتلبية احتياجات المواطنين في مجالات متنوعة منها ما يتعلق بالإسكان أو الطرق أو الخدمات أو الصحة والتعليم.
الميزانية ستنثر الخير في كل مكان، لكن أخطاء البعض سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين أو تجار أو مقاولين قد تقلب المعادلة وتحيلها إلى الجانب السلبي بدلا من الإيجابي الذي ''نحلم'' به جميعا لكن التصرفات الخاطئة - حتى مع الحلم الجميل - ربما تقذف بأحلامنا إلى مشاهد الكوابيس.
وإذا كانت التصرفات الخاطئة تضر المستهلك، فإن التكنولوجيا المتطورة جاءت بسلوكيات أخرى تتعلق بكيفية تلقي أخبار الميزانية وردود الفعل عليها، حيث كان أجدادنا وآباؤنا يستقبلون خبر الميزانية أولا بالتناقل و''السواليف'' ثم الراديو والتلفزيون إلى أن وصلنا حاليا لتلقيها عبر الكومبيوتر وأجهزة الهواتف الخلوية التي أصبحت عملية نقلها إلينا أسرع، وصارت التعليقات مع التطورات التكنولوجية الأخيرة عاجلة غير تلك التي كنا نسمعها من طرف واحد ولا نتمكن من إبداء وجهات نظرنا.
وقد ساهمت القدرة على إبداء وجهة النظر العاجلة مفيدة جدا للمتلقي وصانع القرار أيضا. لقد أصبح باستطاعته سماع آراء ومقترحات من المواطنين قد تسهم في وضع قراره.
ومن يلقي نظره على مواقع التواصل الاجتماعي يلحظ بكل وضوح ذلك ''التواصل'' الخبري وإبداء الآراء سواء من ناحية المواقع المتخصصة مثل ''لينكد إن'' أوالأخرى مثل ''فيس بوك'' أو ''تويتر و''جوجل'' في وقت كان آباؤنا يتسمرون عند التلفزيون انتظارا لإعلان الميزانية دون القدرة على التجاوب وإبداء الرأي، أما نحن فقد أصبحنا محظوظين بأن نعيش في زمن ''يحيا'' فيه ''تويتر'' و'' فيس بوك'' وأخواتهم والسيد الرائع ''جوجل''.