من يحكم مصر بعد مبارك؟
> لقد أدت ثورة 25 يناير المصرية، ومن قبلها ثورة الياسمين في تونس، إلى تحطيم الصور الذهنية والقوالب السلبية السائدة عن العالم العربي. فمنذ الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي التي شهدها العالم منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي مثَّل العرب استثناء واضحا عن هذه القاعدة. دفع ذلك نفر غير قليل من الكتاب إلى الحديث عن العجز الديمقراطي العربي وأسبابه. وعلى سبيل المثال فإن مجلة "الديمقراطية" التي تصدرها جامعة جون هوبكنز الأمريكية نشرت في عدد كانون الثاني (يناير) 2010 مقالة افتتاحية لأحد محرريها البارزين وهو لاري دايموند Larry Diamond يتساءل فيه عن أسباب عدم وجود ديمقراطية عربية!
وإذا كانت الثورة المصرية قد شهدت على مدى أيامها الـ18 أسمى معاني المشاركة الاجتماعية، التي تمثلت في تشكيل اللجان الشعبية لحفظ الأمن والنظام ولجان الخدمات العامة لتوفير الرعاية الطبية والاجتماعية للمحتاجين وما إلى ذلك من فعاليات أخرى، فإن مرحلة ما بعد الإطاحة بمبارك أظهرت قدرا كبيرا من الارتباك وعدم الوضوح. وبات الهاجس الأكبر لدى المصريين متمثلا في مستقبل مصر بعد مبارك، فالمجتمع المصري شهد حالة من الاستقطاب الشديد بين القوى الليبرالية واليسارية التي تطالب بدولة مدنية علمانية والقوى الإسلامية التي تجمع على أهمية المرجعية الإسلامية للدولة المصرية الجديدة.
وعلى أية حال، فإن طريق التحول من النظم التسلطية إلى النظم الديمقراطية يمر دائما بالعديد من العقبات، ولنذكر مثلا تجربة الثورة البرتغالية عام 1974 التي استغرقت نحو عامين كي تسير في طريقها الصحيح. ونظرا لكثرة الضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها الثورة المصرية توجد مخاوف حقيقية على مستقبل مصر في المرحلة القادمة. وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد قطع الشك باليقين وأصدر في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي خريطة طريق زمنية لتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة، فإنه لا تزال هناك تحديات ثلاثة يتوقف عليها تحديد هوية من يحكم مصر في مرحلة ما بعد مبارك.
تحدي الانتخابات العامة
من المعلوم أن الانتخابات التعددية الحرة النزيهة التي لا تقوم على تزييف إرادة الجماهير تمثل أبرز مفردات النظام الديمقراطي السليم، حيث إنها تضمن مسألة تداول السلطة بشكل سلمي. ووفقا للجدول الزمني الذي أعلنه حكام مصر العسكريون فإن انتخابات مجلس الشعب ستبدأ في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) في حين أن انتخابات مجلس الشورى الأقل أهمية ستبدأ في 29 كانون الثاني (يناير) 2012. واللافت للانتباه هنا أن استكمال الانتخابات التشريعية لا يعني بالضرورة نهاية حكم العسكر في مصر، حيث من المقرر أن يظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة قابضا على زمام الأمور حتى يتم اختيار رئيس منتخب. وليس معلوما حتى الآن تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة في مصر.
وأيا كان الأمر، فإن تحدي الانتخابات العامة في مصر يطرح إشكاليات ثلاثة على جانب كبير من الأهمية. أولى هذه الإشكاليات يتعلق بطبيعة النظام الانتخابي، حيث لا يزال الجدل محتدما بين دعاة الانتخابات بالقائمة المغلقة التي تساعد على دعم وتقوية النظام الحزبي الوليد في مصر بعد الثورة؛ إذ إن الأساس في الاختيار بين المرشحين هو البرنامج الانتخابي والأفكار وليس مجرد الأشخاص، وبين دعاة النظام الفردي الذي يقوم على تكريس النزعات العائلية والجهوية. وعلى الرغم من المنحى التوفيقي الذي انتهجه المجلس العسكري، حيث جمع بين النظامين، فإن حالة من الانقسام لا تزال قائمة بين القوى السياسية الرئيسة حول النظام الانتخابي الأمثل. ولعل ذلك ما دفع بالمجلس العسكري إلى تعديل القانون الانتخابي حتى بعد إصداره.
أما الإشكالية الثانية فإنها تتعلق بتأمين الانتخابات وضمان وصول الناخبين إلى صناديق الاقتراع. ولعل ذلك يمثل تحديا خطيرا في ضوء حالة الانفلات الأمني وعدم عودة قوات الشرطة إلى كامل لياقتها التي كانت عليها قبل الثورة. ويبدو أن الإعلان عن اجتماع قادة الجيوش المصرية برئاسة الفريق سامي عنان والاتفاق على قيام الجيش والشرطة بالتعاون مع اللجان الشعبية بتأمين العملية الانتخابية يبعث على الطمأنينة، خاصة إذا ما استرجعنا نجاح هذه التجربة في تأمين مقار امتحانات الثانوية العامة الأخيرة.
وتتمثل الإشكالية الثالثة في مطالبة بعض القوى السياسية بضرورة وجود رقابة دولية على الانتخابات القادمة، وذلك اقتداء بخبرات الدول الأخرى التي مرت بعملية التحول الديمقراطي نفسها، بيد أن التجربة المصرية مختلفة تماما، حيث تجرى الانتخابات المصرية تحت إشراف قضائي كامل، وهو ما يبرر إجراؤها على مراحل ثلاث متتالية للتيسير على الجهاز القضائي المصري القيام بهذه المهمة الشاقة. وأظن أنه من غير المقبول وجود هيئات أخرى تراقب القضاء المصري؛ لأن ذلك يخل بمبدأ هيبة واستقلال القضاء. ومع ذلك فإن الفرصة لا تزال مواتية لقيام مؤسسات المجتمع المدني في الداخل والخارج بمتابعة سير العملية الانتخابية والتأكد من سلامتها. وهذا أمر يسير في ظل وجود وسائل اتصال حديثة وغير تقليدية.
تحدي العسكر
لقد هيمنت المؤسسة العسكرية على النظام المصري منذ عام 1952 حتى أن جميع الرؤساء الأربعة (محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك) خرجوا من رحم هذه المؤسسة الوطنية. كما أن ملامح عسكرة السياسة في مصر على مدى 60 عاما ماضية لم تكن خافية على أحد. فهل يمكن أن تشهد مصر بعد الثورة قطيعة مع هذه التقاليد الراسخة وتختار رئيسا مدنيا لأول مرة أم أن الجيش المصري سيظل قابضا على السلطة ولو من وراء ستار؟ أعتقد أن هناك حالة من عدم اليقين أو الشك تسود المشهد السياسي المصري الراهن إزاء تلك المسألة.
يتحدث البعض عن إمكانية إعادة إنتاج النظام الباكستاني في مصر، حيث تحتفظ المؤسسة العسكرية والشرطة وأجهزة المخابرات بدور بارز في الحياة السياسية مقابل ضعف المكون المدني. على أن خطورة هذا السيناريو هي الدفع بمصر لتكوين دولة فاشلة كبرى في المنطقة. ولا أظن أن الحراك الثوري المصري، الذي افتقدته التجربة الباكستانية، سيسمح بتكرار هذا النموذج. وعلى العكس من ذلك يمكن الحديث عن وجود مؤشرات مهمة في ضوء تصاعد قوة الإسلاميين في مصر تفيد بإمكانية استمرار الدور القوي للجيش المصري في صيغة أشبه ما تكون بالنموذج التركي.
إن تخبط الإدارة الانتقالية لمصر التي يقودها العسكر تجعل بعض المحللين يتجهون إلى القول إن تلك مسألة عمدية تهدف إلى إفراز برلمان ضعيف ومنقسم، وهو ما يسمح للجيش بالاستمرار في ممارسة نفوذه القوي في النظام السياسي الجديد. وثمة احتمال وارد أن يسمح الجيش لأحد أبنائه بالتنافس على الانتخابات الرئاسية القادمة بزي مدني.
ولعل ما يبرر هذه المخاوف يتمثل في الدور الاقتصادي المتنامي للجيش المصري، حيث إنه يمتلك ويدير العديد من المصانع والشركات الاقتصادية، كما أن بعض قادته يعملون في شركات القطاعين العام والخاص، وتلك مزايا تجعلهم أحرص على البقاء في السلطة. هذا التحدي يدفع إلى ضرورة تكاتف القوى السياسية حول هدف الدولة الوطنية الجديدة في مصر، ولا يكون شعار "مدنية" هذه الدولة موجها للقوى الإسلامية، حيث لا توجد في الإسلام دولة دينية، إنما يوجه الوجهة الصحيحة التي تعبر عنها سيرة المفهوم، وهي مواجهة مخاطر إعادة إنتاج حكم العسكر مرة أخرى في مصر.
تحدي الاقتصاد
أسهمت العوامل الاقتصادية بدور كبير في إشعال فتيل ثورة 25 يناير، فاتساع دائرة الفقر وانتشار البطالة في المجتمع المصري أدت جميعها في ظل تفشي الفساد وسوء توزيع الثروة إلى أن يصبح مطلب العدالة الاجتماعية أحد الشعارات البراقة للمصريين بعد الثورة. على أن التحدي الكبير في مصر اليوم هو إمكانية تحول التوقعات المتزايدة للمصريين من الثورة إلى إحباطات متزايدة. فالمؤشرات المتوافرة تفيد بأن الاقتصاد المصري سيحقق نموا بمقدار 1 في المائة فقط في عام 2011. ولا أظن أن بمقدور حكام مصر الجدد العودة إلى زمن السياسات الاشتراكية. ويظل التحدي الرئيس هو تخليص الإصلاحات الليبرالية التي تمت في العهد البائد من الممارسات الفاسدة التي ارتكبت على نطاق واسع. لقد رفض المجلس العسكري الحاكم في مصر إعادة هيكلة الاقتصاد المصري أو تقبل قروض من البنك الدولي والمؤسسات الدولية المانحة؛ حتى لا يزيد من أعباء المصريين على المدى القصير. فقد عانوا بما فيه الكفاية منذ قيام الثورة. وعوضا عن ذلك أسهمت الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور عصام شرف في زيادة العجز المالي للدولة من خلال زيادة الإعانات العامة ورفع الأجور بما يتناسب وارتفاع الأسعار.
وثمة إشكاليات ثلاث أساسية ترتبط بهذا التحدي الاقتصادي، أولاها زيادة نسبة البطالة بين الشباب في مصر. فقد أظهرت بعض التقارير في عام 2010 أن 90 في المائة من العاطلين عن العمل في مصر هم من الشباب تحت سن 30 عاما. وإذا ما أدركنا أن الشباب وصغار السن كانوا الشريحة الأكثر تأثيرا في الثورة المصرية لأدركنا مدى خطورة هذا التحدي. ولعل ذلك هو ما دعا البعض إلى القول إن مصر بعد 25 يناير يمكن أن تشهد ثورة اقتصادية أخرى ربما يقودها هذه المرة الجياع والمتعطلون عن العمل.
أما الإشكالية الثانية فإنها تتعلق بالمعضلة الأمنية، فقوانين الطوارئ لا تزال سارية المفعول على الرغم من الجدل المحتدم حول مدى قانونية ذلك، وهو ما تمثل في تصريح الفقيه الدستوري الكبير طارق البشري بأن استمرار العمل بالطوارئ أمر غير دستوري. ولعل هذه المعضلة القانونية والأمنية تؤثر يقينا في مناخ الاستقرار والأمن في مصر، وهو مناخ جاذب للسياحة التي تعد أحد أهم مصادر الدخل القومي.
وتشير الإشكالية الثالثة إلى تصاعد حدة المطالبات الفئوية التي أخذت شكل الإضرابات والاعتصامات، وهو ما يهدد يقينا بتوقف عجلة العمل والإنتاج ويزيد من بؤس ومعاناة الجماهير. ومكمن الخطورة هنا سياسي أيضا، حيث إنه يدفع بكثير من البسطاء إلى القول إن النظام السابق كان أفضل وإن الثورة أفضت إلى مزيد من المعاناة وعدم الاستقرار، وهذا قول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.
وأيا كان الأمر فإن النجاح أو الفشل في مواجهة التحديات الكبرى السابقة سيترتب عليه تحديد معالم صورة النخبة الحاكمة الجديدة في مصر بعد مبارك. إننا أمام خيارين رئيسين إما إحداث قطيعة نهائية مع النظام البائد وإفراز نظام جديد يتحمل مسؤولية الانتقال بالبلاد نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان وإما أن يتحقق الأسوأ وهو إعادة إنتاج نظام الاستبداد السابق ولو بوجوه جديدة! وربنا يستر.