احتفالية يومنا الوطني.. رحلة تنموية في قرارات ملكية

''إن هذا الشعب عظيم علينا من وجوه كثيرة، أهمها جوارهم بيت الله الحرام وحبهم لنا، والذي أوصي به هذا الشعب الاعتصام بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: '' وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الَلّه جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الَّلهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الَّلهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ'' (آل عمران، 103). مقتطف من كلمة مهمة للمؤسس الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - إلى المواطنين في عام 1936 نشرتها صحيفة ''أم القرى'' (عدد 594 - تاريخ 2 صفر 1355هـ) تؤكد الوحدة الوطنية والأسس التي تقوم عليها الدولة.
من الصعوبة بمكان لكيان واحد الاستدامة وهو يرتكز على تفرقة جغرافية يتخذ من جملتها المركبة اسما له. مجموعة من التحديات قد تحمل في طياتها انعكاسات على الهوية العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذا الكيان الواحد. دفعت مثل هذه التحديات بعض الوجهاء والأعيان إلى الإبراق إلى المؤسس الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - باقتراح تغيير اسم البلاد من ''المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها'' إلى ''المملكة العربية السعودية''. تجاوب المؤسس مع الاقتراح بإصدار مرسوم ملكي حمل الرقم 2716 وتاريخ 17 جمادى الأولى 1351هـ يقضي بتغيير اسم البلاد إلى ''المملكة العربية السعودية''، اعتبارا من يوم الخميس الأول من الميزان، 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 23 أيلول (سبتمبر) 1932. يوم تاريخي مجيد يمثل اليوم الوطني وموعدا سنويا للاحتفال به ومدارسة لذكرى إقامة هذا الكيان وجمع شمل أمته ووحدة أركانها تحت راية التوحيد.
كان الاقتصاد السعودي يعتمد قبل هذا التاريخ على موارد اقتصادية متواضعة شكلتها طبيعة البلاد إبان تلك الفترة. من أهم هذه الموارد الزكاة، وغنائم معارك التأسيس، وضريبة الجهاد، والاقتراض الداخلي، وجمارك الموانئ، والحج. وعلى الرغم مما وفرته هذه الموارد الاقتصادية من سيولة لتأسيس المملكة، إلا أنها ظلت متواضعة أمام طموح المؤسس في تأسيس كيان السعودية ووضعه في قائمة الدول الأكثر تأثيرا في الاقتصاد العالمي.
بدأت بوادر ظهور تغيّر جذري في تركيبة الموارد الاقتصادية أعلاه مع ظهور بوادر وجود النفط في مدينة الدمام وإمكانية تصديره إلى الأسواق العالمية بكميات تجارية بعد خمسة أعوام من تغيير اسم البلاد إلى ''المملكة العربية السعودية''. لم يكن ظهور هذه البشائر خاليا من التحديات؛ فالمملكة تمر بضائقة مالية ليست باليسيرة علاوة على انعدام معرفتها بتفاصيل هذا المورد الاقتصادي الجديد. وعلى الرغم من إسهامات هذا المورد الاقتصادي في معالجة الضائقة المالية إبان تلك الفترة، إلا أن طموح المؤسس كان أبعد من تميز مؤقت إلى إبداع مستديم.
تمثل أحد جوانب هذا الإبداع في أهمية بناء البلاد كافة من خلال مدارسة التاريخ التنموي وما احتواه من ملحمة تأسيس البنى التحتية وتسيير برامجها التنموية الطموحة من ذلك التاريخ حتى اليوم. فاتسمت الخمسينيات الميلادية بأنها مرحلة تأسيس من خلال التوسع في عمليات التمويل؛ ما سبب ضغوطا على مستويات السيولة، والتضخم، والدين العام، وواضعة الاقتصاد السعودي على بوابة الستينيات الميلادية.
اتسمت الستينيات والسبعينيات الميلادية بأنها مرحلة تسارع تنموي. من أهم التطورات إحكام السيطرة على مستوى التضخم، والقضاء على الدين العام، وإصدار الريال السعودي. من أهم التطورات كذلك بداية مراحل التخطيط الاقتصادي، وإعادة رسم خريطة التوزيع السكاني، ونمو عائدات النفط بشكل غير مسبوق حتى سجل الناتج المحلي الإجمالي معدل نمو سنوي بمقدار 8 في المائة، واضعا الاقتصاد السعودي على بوابة الثمانينيات الميلادية.
اتسمت الثمانينيات والتسعينيات الميلادية بأنها مرحلة تباطؤ تنموي. من أهم التطورات زيادة التوتر السياسي في منطقة الخليج، وانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتعديل أهداف الخطط التنموية الخمسية بما يضمن استدامة التنمية والسيطرة على تحديات تلك الفترة.
تميز العقد الأول من الألفية الحالية بأنه مرحلة إعادة تأسيس تنموي طموح. من أهم التطورات إعادة هيكلة قطاع الخدمات المالية، وتخصيص مجموعة من القطاعات الحيوية، ونمو الناتج المحلي الإجمالي إلى قرابة 1.600 مليار ريال في 2010.
نتفاءل بمرور الاقتصاد السعودي خلال العقد الحالي (2010 -2020) بمرحلة متميزة، بعون الله، من خلال مدارسة مجموعة من الأوامر الملكية الكريمة الصادرة منذ اليوم الوطني الثمانين العام الماضي حتى اليوم ذات العلاقة بالتنمية الاقتصادية.
شهدت نهاية أيلول (سبتمبر) من العام الماضي تطوّرا إنسانيا يعد باكورة هذه المجموعة بالموافقة على إنشاء مؤسسة تحمل اسم ''مؤسسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود العالمية للأعمال الخيرية والإنسانية''. وشهد منتصف آذار (مارس) حزمة من الأوامر الملكية التنموية. منها مرتبط بأسباب طلب الرزق بإحداث 500 وظيفة لوزارة التجارة والصناعة لدعم دورها الرقابي، و300 وظيفة للرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء لدعم انتشارها الجغرافي، و60 ألف وظيفة عسكرية لوزارة الداخلية لدعم دورها الأمني.
ومنها كذلك ما هو مرتبط بتحسين مستوى المعيشة باعتماد الحد الأدنى لرواتب جميع فئات العاملين في الدولة من السعوديين بثلاثة آلاف ريال شهريا، واعتماد صرف مُخصص مالي قدره ألفا ريال شهريا للباحثين عن العمل في القطاعين العام والخاص، وتثبيت جميع العاملين في برنامج محو الأمية المسائي في وزارة التربية والتعليم، وصرف راتب شهرين لجميع موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين، وصرف مكافأة شهرين لجميع طلاب وطالبات التعليم العالي الحكومي.
ومنها مرتبط بالمسكن برفع قيمة الحد الأعلى للقرض السكني من صندوق التنمية العقارية من 300 إلى 500 ألف ريال، واعتماد بناء 500 ألف وحدة سكنية في مناطق المملكة كافة، وتخصيص مبلغ 250 مليار ريال لذلك، وإنشاء وزارة باسم وزارة الإسكان.
ومن هذه الأوامر الملكية الكريمة كذلك ما هو مرتبط بتطوير الرعاية الصحية برفع الحد الأعلى في برنامج ''تمويل المستشفيات الخاصة في وزارة المالية من 50 إلى 200 مليون ريال، واعتماد مبلغ 16 مليار ريال لوزارة الصحة لتنفيذ وتوسعة عدد من المدن الطبية. ومنها ما هو مرتبط بتطوير العلوم الفقهية والنزاهة بإنشاء ''الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد''، والمجمع الفقهي السعودي، وتوسعة الانتشار الجغرافي للرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء.
شهدت الأشهر اللاحقة أوامر ملكية كريمة ذات علاقة بالتنمية الاقتصادية، منها الموافقة على الخطة التفصيلية والجدول الزمني المتضمنة الحلول العاجلة قصيرة المدى والحلول المستقبلية لمعالجة تزايد أعداد خريجي الجامعات المعدّين للتدريس وحاملي الدبلومات الصحية بعد الثانوية العامة. ومنها كذلك زيادة دعم الأعلاف ومدخلاتها بنسبة 50 في المائة عما هو معمول به حاليا. وأخيرا وليس آخرا تغيير اسم مدينة رأس الزور التعدينية إلى ''رأس الخير'' في استشراف واقعي لمستقبل التنمية السعودية.
يقول الأمير سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - في محاضرة في رحاب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مطلع العام الحالي بعنوان ''الأسس التاريخية والفكرية للمملكة العربية السعودية'': ''إن هذه الدولة ما كان لها أن تجمع الناس في هذه البلاد وتوحدهم على تعدد قبائلهم وحواضرهم إلا على راية التوحيد والإسلام والمنهج الصحيح الذي قام به حكام هذه البلاد وحققوه ودعوا إليه منذ قيام الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية وفي عهد الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد - رحمهم الله - والملك عبد الله وولي عهده الأمير سلطان - حفظهما الله .. إن وحدة هذه البلاد وتماسكها مستمر - بإذن الله - إذا حافظ الجميع على هذه الأسس وما يتصل بها من خصوصية ومنهج وعلى هذا التلاحم الذي غذاه الجميع من حاضرة وبادية ولا يزال يغذيه الجميع اليوم من أبنائهم، معتمدين على الله - عز وجل - ثم على أسس هذه البلاد التي تعلي راية التوحيد''.
إن هذه المدارسة العاجلة والمختصرة لتاريخنا التنموي منذ تغيير اسم البلاد إلى ''المملكة العربية السعودية'' حتى اليوم وجه متواضع بالاحتفال باليوم الوطني الحادي والثمانين للمملكة الذي يصادف بعد غد الجمعة 25 شوال 1432هـ لهو تذكير بنعم الله - سبحانه وتعالى - ثم بجهود الرجال المخلصين الذين عملوا لأمن واستقرار هذا الوطن، وتجسيد للوحدة الوطنية، وحفاظ على ما تحقق من منجزات، وتكريس للجهود المخلصة الهادفة إلى تحقيق المزيد من التميز لدور المملكة ومكانتها إسلاميا وعربيا ودوليا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي