Author

الدين اليوناني خارج السيطرة

|
الدين اليوناني خارج السيطرة، هذا هو ما توصل إليه تقرير للمكتب البرلماني المستقل للميزانية في اليونان، وهو مكتب تم إنشاؤه حديثا في اليونان. خلاصة التقرير هي أن ديناميكيات الدين اليوناني أخذت في الانحراف عما هو متصور بحيث أصبح خارج السيطرة، فالفائض الأولي (الفرق بين الإيرادات العامة والنفقات العامة في الميزانية) في الميزانية لم يتحقق بعد، بل العكس هو ما حدث، حيث تفاقم العجز الأولي في الميزانية، وأن اليونان لن تتمكن من استيفاء التزاماتها حول نسبة عجز الميزانية إلى الناتج لهذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى تأخير تنفيذ برنامج التعديل الهيكلي الموقع من جانب الحكومة مع صندوق النقد الدولي. ما إن نشر التقرير حتى أثار غضب وزير المالية اليوناني الذي وصف بدوره المكتب بأنه لا يملك القدرات المهنية التي تمكنه من إصدار مثل هذا التقرير، وأنه لا يملك المعرفة اللازمة أو الخبرة أو المسؤولية المناسبة لذلك، وبغض النظر عن رد فعل وزير المالية، فإن الأمور على الأرض تشير إلى أن اليوناني أصبح في غاية الخطورة وأن أوضاع الدين أصبحت غير قابلة للاستدامة بدون تعديل هيكل هذه الديون، ويقصد بإعادة تعديل هيكل الدين تخفيض معدلات الفائدة أو إطالة أمد الدين أو إلغاء جانب من الدين، وهو ما يرفضه دائنو اليونان. اليونان إذن أمام وضع حرج للغاية، فما هي حقيقة أوضاع الديون اليونانية، وما الآثار المترتبة على استمرار نسبة الدين اليوناني إلى الناتج المحلي عند مستويات مرتفعة، يتوقع أن تصل إلى 150 في المائة هذا العام، وما هي آفاق هذا الوضع، هذا ما سنحاول مناقشته في هذا المقال. سبق أن تناولت موضوع الدين اليوناني والآثار التي يمكن أن تحدث في العالم إذا أفلست اليونان في أكثر من موضع، ومن وقت لآخر تطفو مشكلة اليونان على السطح، مع تأكيد الكثير المراقبين بأنه طال الزمن أم قصر ليس هناك أمام اليونان من خيار سوى إعلان الإفلاس، فهي من وجهة نظرهم دولة لا تملك إمكانية دفع ما عليها من التزامات على المدى الطويل. في الفترة الأخيرة عاد موضوع أزمة الدين اليونانية إلى الواجهة مرة أخرى، ولكن بصورة مقلقة جدا هذه المرة، وذلك عندما قطعت اللجنة الثلاثية المشكلة من دائني اليونان وهم صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي محادثاتهم مع الحكومة اليونانية لإقرار الدفعة الثانية من المساعدات التي تم إقرارها لإنقاذ اليونان، وقد اصدر صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي تقريرا مقتضبا في وقت واحد، مثير للشكوك، أوضحا فيه أن اللجنة سوف تعود إلى اليونان في منتصف هذا الشهر لاستكمال المباحثات، على أمل أن تقوم السلطات اليونانية باستكمال أعمالها الفنية اللازمة لإتمام المناقشات حول السياسات المطلوبة لإعداد التقييم النهائي للوضع اليوناني، في إشارة إلى عدم رضاء اللجنة عن الأوضاع الحالية لليونان. من جانبه حذر رئيس البنك المركزي الأوروبي من مغبة ترك الأمور على حالها بدون تدخل سريع في الحالة اليونانية، وطلب بسرعة تطبيق الإجراءات التي تم الاتفاق عليها لمعالجة أزمة ديون اليونان، وكذلك بالإسراع بتقديم حزمة الإنقاذ التي تم إقرارها لها مناديا في الوقت ذاته أيضا إلى متابعة أوضاع الاقتصاديات الأوروبية على نحو لصيق بصفة خاصة الميزانيات العامة لها. أدت المخاوف من تعقد أزمة الديون اليونانية إلى تزايد الشكوك بحدوث أزمة ديون سيادية في أوروبا، ذلك أن هناك شعورا قويا سائدا حاليا بين المستثمرين بأن اليونان على وشك الإفلاس، على سبيل المثال قامت مؤخرا مؤسسة ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف الائتماني للدين اليوناني من BB- إلى B-، وهي التصنيفات التي تعطى للسندات غير المرغوب فيها أو ما يسمى بسندات الخردة Junk Bonds، وقد أشارت المؤسسة إلى احتمال حدوث المزيد من التخفيض للتصنيف بسبب المخاطر التي يمكن أن تصاحب الإجراءات التي ستتخذها الحكومة اليونانية لإعادة هيكلة شروط ديونها. هذا التدهور في تصنيف الديون اليونانية أدى إلى ارتفاع معدلات العائد على السندات اليونانية إلى مستويات فلكية. فقد ارتفع معدل العائد على السندات استحقاق سنة إلى نحو 70 في المائة، والسندات ذات الاستحقاق سنتين إلى أكثر من 50 في المائة، وهي، بكل المستويات، تعكس حقيقة أن السندات اليونانية لم تعد تساوي شيئا تقريبا، وأن احتمالات الإفلاس وفقا لتوقعات السوق هذه تعد مرتفعة جدا. الأسباب المعلومة لهذه التطورات السيئة متعددة أولها أن معدل النمو المتوقع للناتج المحلي الإجمالي في اليونان في هذا العام سوف يكون أقل مما كان مخططا له. إذ إن الكساد الذي تعيشه اليونان آخذ في التعمق، بسبب تراجع تنافسية الاقتصاد اليوناني في السنوات الأخيرة، وقد أدى هذا الوضع إلى إثارة قلق دائني اليونان، ذلك أن اتساع احتمالات تعمق الكساد بصورة أكبر مما هو متوقع، يجعل استيفاء متطلبات تخفيض العجز مسألة صعبة. ذلك أن التراجع في النشاط الاقتصادي سوف يحمل انعكاسات خطيرة بالنسبة لالتزامات اليونان قبل دائنيها، وتشير التوقعات إلى احتمالات أن يتراجع نمو الاقتصاد اليوناني في عام 2011 بين 4.5 في المائة - 5.3 في المائة مقارنة بالتوقعات السابقة التي وضعت معدل التراجع في النمو عند 3.9 في المائة فقط، أكثر من ذلك فإن الحكومة اليونانية أقرت بأن الكساد ربما يمتد إلى العام القادم أيضا. السبب الثاني هو أن هناك شكوكا حول قدرة اليونان على الوفاء بالتزاماتها حول تخفيض العجز في الميزانية العامة المستهدف لهذا العام، والذي تم وضعه بواسطة المقرضين الأجانب، فقد أعلنت الحكومة اليونانية بأن نسبة عجز الميزانية إلى الناتج سوف تتزايد بصورة أكبر مما كان متوقعا، وربما تكون في حدود 8.5 في المائة أو أكثر العام القادم بدلا من المستوى المستهدف لهذا العام وهو 7.6 في المائة، وذلك نتيجة تراجع الإيرادات العامة للدولة، حيث تواجه الإيرادات من الضرائب مشكلة حاليا بسبب ظروف الكساد التي تمت الإشارة إليها، فالكثير ممن يجب أن يدفعوا الضرائب ليس لديهم الأموال الكافية لذلك، ومشكلة إجراءات التقشف التي أجبرت الحكومة اليونانية عليها هي أنها لا تساعد الاقتصاد على النمو وإنما تعمل على تراجع نموه. العجز في الميزانية يعني إذن أن الاقتصاد اليوناني يواجه أوضاع أصعب مما كان يتوقع، وأن بعض الإجراءات التقشفية المتفق عليها لا بد من تأجيلها أو عدم تطبيقها من الأساس، وأن ما تم الاتفاق عليه من إجراءات سابقا لا يعمل كما كان متوقعا في البداية. السبب الثالث هو أن هناك بعض الشك في قدرة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الحصول على الموافقات اللازمة في البرلمان الألماني لزيادة صندوق الإنقاذ الأوروبي الأسبوع القادم، وذلك نتيجة التطورات التي حدثت في انتخابات المحليات حيث حقق حزب ميركل هزيمة في الانتخابات. هزيمة ميركل تعني أن مساعدة الدول المدينة الأخرى في المنطقة، على الرغم من أهميتها لتماسك الاتحاد الأوروبي، أصبح لها انعكاسات خطيرة على المستوى المحلي، وبالتالي أصبح من غير المؤكد إذا كانت خطة إنقاذ اليونان سوف تمر، وهو ما يبشر باحتمال انطلاق أزمة مالية أخرى في أوروبا. السبب الرابع وهو أنه في ظل هذه الظروف لا يتوقع انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأجل القريب، فهناك تكهنات بأنه بالرغم من كل ما سوف تتخذه الحكومة من إجراءات، فسوف ترتفع نسبة الدين إلى الناتج إلى 150 في المائة، وهي نسبة غير مستدامة، وتعني أن خطة الإنقاذ الحالية لن تكون هي الأخيرة وأن اليونان سوف تحتاج إلى خطة إنقاذ جديدة في المستقبل القريب. السبب الخامس هو أن الإجراءات التقشفية التي يطالب دائنو اليونان الحكومة اليونانية بتطبيقها أصبحت خطيرة جدا من الناحية السياسية، وهناك شكوك في قدرة الحكومة على القيام بهذه الإجراءات، كما أن هناك شكوكا أيضا حول قدرة الحكومة اليونانية على تدبير مبلغ الـ 40 مليار دولار المفترض تحصيلها من عمليات الخصخصة التي اتفق عليها وذلك خلال فترة زمنية قصيرة، حيث أن ذلك يعني أن الحكومة لن تكون قادرة على تنفيذ هذا البرنامج بدون اللجوء إلى حرق أسعار للأصول العامة، وهو ما يعني صعوبة تحقيق الحصيلة المستهدفة من الخصخصة خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يمر بها الاقتصاد اليوناني حاليا. حتى هذه اللحظة ما زالت جهود إنقاذ اليونان مهددة، بعد أن فشلت اليونان في إقناع المقرضين الدوليين بقدرتها على السيطرة على العجز في الميزانية وبلوغ المستوى المستهدف لها في 2011، وقد حذر صندوق النقد الدولي من أنه أصبح من الصعب أن يتم تقديم تقرير إيجابي حاليا عن اليونان، لأن التزامات اليونان حول خفض الإنفاق وخطة الخصخصة لم يتم استيفاءها، الأمر الذي يعكس عدم قدرة اليونان على تحقيق مستهدفاتها وهو ما سوف يثير الجدل بين مقرضيها حول إمكانية استمرار تقديم المساعدة لإنقاذ اليونان. غير ان الخطورة في عدم تقديم المساعدة اللازمة للإنقاذ هي أنها يمكن أن تتسبب في نتيجة واحدة وهي إفلاس اليونان، وإذا أفلست اليونان، على صغرها، فإنها يمكن أن تعرض الأسواق المالية في العالم، وبالذات الأوروبية إلى اضطراب عظيم. لقد بدأت آثار المخاوف من خروج الدين اليوناني عن نطاق السيطرة في الظهور بالفعل على أرض الواقع. فقد شهد هذا الأسبوع انخفاضا كبيرا في أسهم البنوك الأوروبية، بسبب القلق من تعرضها للديون السيادية الأوروبية. بعض البنوك التي انخفضت أسهمها داخلة في نطاق مجموعة البنوك التي ستقاضيها الحكومة الأمريكية بتهمة بيع سندات عقارية مرتفعة المخاطر بنحو 196 مليار دولارا بدون الإفصاح عن مكونات غطاءها، وهو ما تسبب في خسارة مؤسستي التمويل العقاري ماني فاي وفريدي ماك نحو 30 مليار دولارا. هذه الادعاءات زادت أيضا من مخاطر البنوك الأوروبية المنكشفة على الديون السيادية بصفة خاصة على اليونان، ويقدر بأن البنوك الأوروبية منكشفة بنحو 94 مليار يورو في الدين اليوناني، وفي حال حدوث صدمة للديون اليونانية فإن البنوك الأوروبية لن تكون قادرة على تحمل هذه الصدمة، بدون عملية إعادة رسملة ضخمة. من ناحية أخرى فقد اليورو الكثير من قيمته هذا الأسبوع مع تصاعد التكهنات حول مدى قدرة السلطات الأوروبية على إيجاد حل مستدام لهذه المشكلة، وتوفير التمويل اللازم لميزانيتها، ولقد أصحبت الضغوط على الساسة في الدول الأوروبية المدينة ضخمة وتهدد مستقبلهم السياسي، وهو ما قد يعطل من تنفيذ خطط التقشف على النحو المطلوب لتخفيض ضغوط الدين، مما يعني أن الحاجة سوف تبدو بصورة اكبر إلى المزيد من الإنقاذ في المستقبل، وان استمرار الخلل المالي في الدول الأوروبية سوف يعني أن عملية الاقتراض المستقبلية سوف تكون مكلفة للغاية حيث سيطالب المستثمرون بمعدلات عائد أعلى وهو ما سوف يجعل من الصعب على هذه الدول استمرار التعامل مع الأزمة. تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من تخصيص المنطقة الأوروبية لتريليون دولار لأغراض الإنقاذ إلا أن انتشار عدوى الديون السيادية يعني أن هذه المبالغ ربما لا تكون كافية للتعامل مع أزمة الديون الأوروبية في حال انطلاقها، بصفة خاصة إذا لحقت إيطاليا وإسبانيا في ركب الدول المعرضة للإفلاس، بعض التقديرات تضع حجم الأموال اللازمة للتعامل مع أزمة الديون الأوروبية بنحو ثلاثة تريليونات دولار، لكي تتم عملية إنقاذ آمنة للدول المدينة في المنطقة، وحتى اليوم لم تتوصل المنطقة الأوروبية إلى صيغة شاملة للتعامل مع أزمة الدين، وان ما يتم حاليا هو التعامل مع كل حالة على حدة، كما أن ما يطبق حاليا من إجراءات هو مزيج من توفير السيولة وإجراءات للتقشف، ولكن اعتبارات النمو المصاحبة للبرامج بصفة خاصة الاستثمار لم يتم التعامل معها بصورة جادة وهو ما يعقد من أوضاع الدول المدينة، إذا لم يتم التعامل مع القيود الهيكلية التي تعاني منها هذه الدول. الخلاصة تتمثل في أن اليونان مطلوب منها حاليا أن تصحح أخطاء ارتكبتها عبر عقود طويلة من الزمن وفي غضون فترة زمنية قصيرة جدا، وهذا لا يمكن أن يتم بصورة سهلة كما يتصور البعض، وأن اليونان سوف تتحمل تكلفة ضخمة في إطار عملية الإنقاذ. من ناحية أخرى فإن هذه التطورات المخيفة التي تمر بالأزمة اليونانية حاليا أدت إلى تصاعد التوقعات باحتمالات انتقال العدوى لباقي الدول الأوربية ذات الديون الثقيلة، وهو ما يمكن أن يترتب عليه أزمة مالية طاحنة العالم ليس مستعدا لها على الإطلاق.
إنشرها