تساؤلات عدة حول الموقف الروسي من ثورات الربيع العربي

يثير الدور الروسي في المنطقة العربية - في الفترة الراهنة - العديد من التساؤلات والنقاشات؛ ذلك أن المواقف الروسية ظهرت وكأنها تبطن العداء والممانعة أو على الأقل عدم الارتياح تجاه ما يحمله الربيع العربي من تطورات ومتغيرات جديدة، وتميزت تصريحات المسؤولين الروس بالريبة والحذر والتردد، فبدت غير مفهومة ومستهجنة من طرف غالبية الشعوب العربية، ولم تك جملة المواقف التي صدرت من روسيا، سواء عن الكرملين أو عن الخارجية الروسية مبنية على أسس منهجية أو ضوابط معينة، وإن كانت محددتها تتمحور حول مصالح الشركات الروسية أكثر من ارتباطها بمصالح روسيا الوطنية البعيدة المدى، إضافة إلى أنها عكست هواجس الحراك الداخلي في الاتحاد الروسي ومحيطه الحيوي، وما يفرضه الغرب الأوروبي والأطلسي من تحديات على قادة موسكو؛ لذلك راحوا يتحدثون عن مؤامرات أطلسية غربية تقف وراء الثورات والانتفاضات العربية.
ولا شك في أن جملة الاعتبارات التي تتحكم بالمواقف الروسية تجاه ما تحمله الثورات العربية من متغيرات، تشير إلى أن القيادة الروسية الحاكمة تفضل الاستقرار في المنطقة العربية، والركون إلى الاستثمار الذي تقدمه تحالفاتها وعلاقاتها مع الأنظمة العربية المتقادمة، على الرغم من الإشارات الخجولة إلى مطالب الشعوب المحقة واحتجاجاتها السلمية، فيما يشير واقع الحال إلى تفاوت الاهتمام الروسي بالانتفاضات والثورات التي عصفت بالأنظمة العربية منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010، وأفضت إلى تغيير الأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا، وما زالت رياحها تجتاح اليمن وسورية.

المواقف الروسية
يلاحظ المتتبع للموقف الروسي أن ما حدث في تونس من ثورة وتغيرات لم يلقَ الاهتمام الكافي من طرف الساسة الروس، وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث البحرين، أما تجاه الأزمة وتداعياتها في اليمن، فأعربت روسيا عن تخوفها من سير الأحداث، بحجة أن المعارضة اليمنية ''مسلحة''، وتضم ''عناصر إرهابية''، وكشفت تصريحات المسؤولين الروس عن تحفظات جوهرية حيال الثورة اليمنية وطبيعة الصراع القائم حول السلطة. في حين أن المتغيرات التي طاولت كلا من مصر وليبيا وسورية نالت اهتماما أكبر من طرف روسيا؛ إذ مع بداية الثورة المصرية أطلق الساسة الروس تصريحات حذرة، تعبّر عن عدم رضى وانتقاد ما يجري من حراك احتجاجي، وعن الخشية مما تحمله الثورة من متغيرات، فاتهموا شركة ''جوجل'' بتحريض الشعب المصري على الثورة ضد النظام المصري السابق.
وكان المفترض أن تشكل الثورة المصرية وإسقاط نظام حسني مبارك فرصة للنظام الروسي، كي يعيد ترتيب علاقته مع الشعب المصري، ومع مصر، وأن يسهم في المساعدة على ولادة نظام جديد يفترق عن النظام السابق، الذي لم يكن تربطه بموسكو أية علاقات مميزة، ووضع كل أوراقه بيد الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن القادة الروس ظنوا أن نظام حسني مبارك السابق باق رغم كل شيء، فلم يقطع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف اتصالاته مع مبارك، وأرسل إليه مبعوثه الخاص للتعبير عن دعمه له قبل يومين من تنحيه عن السلطة، وانتقدت روسيا دعوة الرئيس الأمريكي الرئيس السابق حسني مبارك للتنحي فورا، بل وانتقدت كذلك دعوة بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة حسني مبارك للتنحي عن السلطة. ثم ما لبثت السلطات الروسية وأن غيّرت موقفها بعد نجاح الثورة المصرية في إزاحة نظام مبارك، فجاء الإعلان الروسي عن دعم الثورة متأخرا وغير واضح المعالم، ولم يتجسد في خطوات معينة.
أما المواقف الروسية حيال الثورة في ليبيا فكانت ممانعة بدورها حيال المتغيرات الجديدة، وأعلنت روسيا في أكثر من مناسبة أنها لن توافق على أي قرار دولي حول ليبيا؛ نظرا لخشيتها من أن أي تدخل عسكري في ليبيا، سيدخلها في أتون الحرب الأهلية، وحاولت روسيا منع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، إضافة إلى فرضه عقوبات على نظام القذافي، وامتنعت عن التصويت لصالح القرار، لكنها لم تستطع منه؛ نظرا للإجماع الدولي ولكونه جاء تحت مبدأ التدخل الإنساني وحماية المدنيين. ثم اضطرت لاحقا لإعلان التزامها به، ولم تقطع علاقاتها مع القذافي، مقابل انتقاد معارضيه والتشكيك بقدراتهم ونواياهم. وقد تلقى الرئيس ميدفيديف انتقادات حادة من طرف رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين؛ لعدم استخدامه حق النقض (الفيتو) لمنع صدور القرار الدولي، حيث اعتبر بوتين القرار ''معيبا وخاسرا''، و''يُذكر بدعوات القرون الوسطى إلى شن حملات صليبية، ويجيز التدخل في شؤون دولة ذات سيادة''، بل واعتبر عمليات الناتو ''حربا صليبية بالفعل''. كما انتقدت القرار أوساطا برلمانية وإعلامية روسية عديدة، الأمر الذي جعل ميدفيديف يطالب بتنفيذ ''نص القرار وروحه، وليس حسب التفسير العشوائي الذي قدمته بعض الدول''، ثم اعتبر عمليات حلف الناتو ''تدخلا سافرا في شؤون ليبيا''. وحاولت روسيا القيام بمبادرات ووساطات ما بين القذافي والمجلس الانتقالي الليبي، لكنها لم تنجح، ولم تلاقِ أي قبول من طرف الثوار، وبالتالي لم تتمكن الدبلوماسية الروسية من العودة إلى المسرح الليبي. واضطرت في نهاية الأمر إلى تغيير موقفها بعد دخول قوات ثورة 17 شباط (فبراير) العاصمة طرابلس، فاعترفت بالمجلس الليبي الانتقالي، وكالعادة جاء اعترافها بالمتغيرات الجديدة متأخرا. وهو أمر لن يساعد روسيا على لعب دور مهم في المنطقة العربية، حسبما تسعى إليه، سواء من البوابة السورية أو من بوابة الصراع العربي الإسرائيلي وسواها.
ولم يتغير الدور الروسي في الأزمة السورية كثيرا، على الرغم من أن موسكو تولي أهمية خاصة لعلاقاتها مع النظام السوري، وتتحدث عن عدم سماحها لتكرار النموذج الليبي، مع أن روسيا تعي تماما أن سورية ليست ليبيا، وأن المعارضة السورية ترفض أي تدخل عسكري أجنبي في الأزمة السورية، لكن الساسة الروس يتحدثون عن ضرورة الإصلاح، وعن الخطوات الإصلاحية وعن الحوار، ولا يتحدثون عن الدماء السورية التي تسيل في كل يوم، بل يريدون تصحيح خطأهم بالموافقة على القرار الدولي بشأن التدخل في ليبيا من خلال التهديد بعدم تمرير قرار في مجلس الأمن حيال الوضع في سورية، وأنهم لن يكرروا الغلطة ذاتها بخصوص سورية، فيما يرى المحتجون السوريون أن موقف روسيا ومعها الصين وبعض الدول يدعم النظام السوري، ويؤمّن له الغطاء الدولي للاستمرار في الحل الأمني، وتبرير قتل وقمع المحتجين السلميين.
وفي كل الحالات جاءت المواقف الروسية مغايرة لما تحمله الثورات والانتفاضات العربية من متغيرات وتطورات؛ لذلك فإن الدور الروسي في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة يثير مشاعر الغضب والسخط في الشارع العربي، وخصوصا لدى جمهور المحتجين الذين أحرقوا الأعلام الروسية في تظاهراتهم في سابقة لم تسجل من قبل، وأدانوا المواقف الروسية الداعمة للأنظمة الاستبدادية.

الدوافع والحيثيات
تعبر ردات الفعل والانتقادات العربية للدور الروسي في المنطقة العربية عن فشل السياسة الخارجية الروسية، وعن شرخ كبير في علاقة الشعوب مع المواقف التاريخية للاتحاد السوفييتي السابق الذي حملت تراثه روسيا. ويبدو أن المواقف الروسية ما زالت تستند إلى إرث مرحلة الحرب الباردة، وما يتمخض عنها من ردات فعل ضد المواقف الأوروبية والأطلسية، إلى جانب التخوف مما يمكن أن تقدمه التغييرات الجارية في بعض البلدان العربية من مساحات نفوذ للغرب الأوروبي والأطلسي. لكن ذلك لا يبرر تجاهل مطالب الثورات والانتفاضات بالحرية والكرامة والديمقراطية، وتحسين الأوضاع والأحوال المعيشية للشعوب العربية.
والواقع هو أن دوافع وحيثيات الدور الروسي، ترجع إلى أمور عدة، منها يرجع إلى تخوف روسيا من تأثر الوضع الداخلي في اتحادها من رياح التغيير الديمقراطي التي تجتاح المنطقة العربية، ومن إرهاصات على مستقبل دول آسيا الوسطى، وخاصة الدول الحليفة لها مثل أذربيجان وكازاخستان وطاجيكستان وبيلاروسيا.
ومن الطبيعي أن تثير مواقف موسكو انتقادات حادة في البلدان العربية، لكن ما يهم القادة الروس هي المصالح الاقتصادية، وجردة حسابات الربح والخسارة؛ إذ يرون أن العقوبات الغربية على إيران جعلتهم يخسرون ما يقارب الثلاثة عشر مليارا من الدولارات، وخسارة أكثر من أربعة مليارات في ليبيا، كانت مبرمة في عقود معها كثمن أسلحة، إلى جانب مشاريع في مجال الطاقة والبنى التحتية، حيث طلبت ليبيا إبان حكم القذافي أسلحة بقيمة ملياري دولار للدفاع الجوي ودبابات قتالية وطائرات. وعليه، أعلن ''سيرجاي شيميزوف'' مدير عام شركة التقنيات الروسية، أن الأزمة في ليبيا أفضت إلى تقلص أرباح روسيا بما يعادل أربعة مليارات دولار. ولا شك في أن ليبيا كانت تكتسي أهمية خاصة بالنسبة للمصالح الروسية؛ نظرا لتنوع الاستثمارات والمشروعات الروسية في مجالات عديدة، وخاصة في مجال الطاقة والسلاح. حيث تتوقع شركة ''تات نفط'' الروسية، أن خسائرها في ليبيا قد تتراوح بين 240 و260 مليون دولار، بعد سقوط نظام القذافي، وفي حال عدم التزام القادة الجدد في ليبيا بالعقود السابقة مع ليبيا. أما في مجال تجارة السلاح، فقد وقّعت ليبيا في عام 2008 عقودا، وصلت قيمتها التقديرية إلى ملياري دولار مع روسيا لتوريد أسلحة وقطع غيار للأسلحة الروسية الصنع، حيث تمثل الأسلحة والمعدات الروسية نسبة 90 في المائة من أسلحة ومعدات القوات الليبية.
ولا شك في أن المصالح الروسية في سورية كبيرة ومهمة بالنسبة إلى روسيا، حيث تقدر مبيعات الأسلحة إلى سورية بمليارات عدة من الدولارات. يضاف إلى ذلك عشرات المشاريع المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدّر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، حيث جرى توقيع أربع اتفاقيات في 25 كانون الثاني (يناير) عام 2005، تختص بالتعاون في مجالي النفط والغاز وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والعلمية. إلى جانب تعهد روسيا بتقديم الدعم لسورية عسكريا والوقوف إلى جانبها سياسيا. وتبدو حيثيات وحساب المصالح الروسية راجحة في تحديد طبيعة الدور الروسي، وهو أمر ينطبق على سائر الدول الغربية والأطلسية وسواها، إلا أنها في الحالة الروسية تمتلك أهمية قصوى ومتشابكة مع عوامل داخلية وخارجية، خاصة وأن روسيا تمكنت في السنوات القليلة الماضية من تحسين علاقاتها مع عدد من الدول العربية، بما فيها دول الخليج العربي، فضلا عن علاقاتها وتعاونها العسكري والتقني مع إسرائيل، وبالتالي صار لها مصالح تتأثر بالمتغيرات الجارية في المنطقة العربية؛ لذلك باتت تعتبر أن الاستقرار هو الضمانة الأساسية للمصالح الروسية، بصرف النظر عن ممارسات الأنظمة وعن مطالب الشعوب، فراحت تؤكد مبدأ رفض التدخل الخارجي في الأوضاع الداخلية العربية، وترك الشعوب وحيدة في معركتها مع قمع الأنظمة.
وأيا كانت مبررات ودوافع الموقف الروسي من الثورات والانتفاضات العربية، فإنه سيؤثر على مستقبل العلاقات الروسية العربية، خاصة وأن نجاح ثوار ليبيا في إسقاط نظام القذافي سيقدم درسا للروس وسواهم بأن التغيير قادم، وقد يأخذ وقتا، لكن في نهاية الأمر ستكون للشعوب العربية كلمتها الفاصلة، وقد تندم موسكو على مواقفها في وقت لا ينفع فيه الندم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي