الجدوى الاقتصادية للعمل الاجتماعي

تتعدد خيارات التنمية التي تنتهجها أي دولة من الدول، ولكن يبقى خيار الاقتصاد الاجتماعي التضامني هو خيار التنمية الشاملة والمتوازنة، وفي قمة التنمية الاجتماعية التي عقدت في كوبنهاجن عاصمة الدنمارك اتفقت غالبية الدول المشاركة على أنه لا سبيل إلى تحقيق تنمية مستدامة إلا من خلال الإقرار باعتبار أن البعد الاجتماعي هو السبيل الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية، وبحيث تصبح تنمية المجتمع إحدى أهم ركائز التنمية الشاملة، وكذلك من خلال الدعوة إلى تنمية مفهوم الشراكة بين مؤسسات الدولة الرسمية والجمعيات والهيئات الأهلية.
ولعل الطرح النظري لإثبات تلازم البعدين الاقتصادي والاجتماعي واعتبار التضامن رباطاً يشدّ البناء الاجتماعي ويدعم مسيرة التنمية الشاملة والمستدامة لن يفي بمتطلبات التناول هنا مما يجعلنا في حاجة إلى البدء بنموذج عملي من واقع المملكة العربية السعودية.
ويمكن أن نمثِّل لهذا النموذج بمركز رؤية للدراسات الاجتماعية وهو المركز الأول من نوعه في المملكة العربية السعودية كمركز غير ربحي يشارك في تنمية المجتمع بأساليب وطرائق جديدة. وهنا يكون من سمع ليس كمن رأى؛ حيث يمكن الحديث عن المركز من واقع ما كتبه عن نفسه في موقعه الإلكتروني أو مما كتبه عنه الآخرون، ولكن زيارتي للمركز في محافظة الرس قبل أيام تضيف أبعاداً جديدة لتناول الجدوى الاقتصادية للعمل الاجتماعي.
فمن خلال عمل المركز الذي هو فكرة وتنفيذ وإخراج الدكتور إبراهيم بن عبد الله الدويش يمكن إعادة ترتيب القطاعات الاقتصادية الثلاثة في المجتمع وهي: القطاع العام الذي تهيمن عليه الدولة، والقطاع الخاص الذي تجسده المبادلات الحرّة والملكية الفردية والغايات الربحية، والقطاع الثالث الذي يُعرف بالاقتصاد الاجتماعي ويضمّ العديد من الأطراف الممثلة لمكوّنات المجتمع المدني، وغاياتها غير ربحية.
وإذا نظرنا إلى ما يدفع المجتمعات إلى الأمام دائماً؛ لوجدنا أن الإجابات الجاهزة والأنظمة المعلَّبة المستوردة من الخارج لا تجدي نفعاً، وإنما التساؤلات الصحيحة هي التي تحفِّز المجتمعات على التحرك إلى الأمام بحثاً عن إجابات صحيحة أيضاً، وهذا ما بدأ به مركز رؤية بسؤالين: 1. ألا يمكن أن يكون العمل أكبر مع تعدد وتنوع مشاكل المجتمع؟!
2. ألا يمكن أن يكون علاج مشاكلنا الاجتماعية علاجاً جماعياً يجتمع فيه عدد من العقول؟
ومن خلال التساؤلات الاجتماعية يمكن الوصول إلى إجابات اقتصادية توضح الفكرة وتؤكد المعنى الاجتماعي للاقتصاد أو الاقتصادي للاجتماع، وإلا فكيف يمكن لمجتمع تكبله الأمراض الاجتماعية من بطالة وعنف أسري أن ينهض اقتصادياً بالاعتماد على اقتصاديات غير بترولية؟ ومن الوجه الآخر للعملة الاقتصادية - الاجتماعية يمكن الإجابة عن تساؤل يتعلق بنهوض مجتمع فقير اقتصادياً ولكنه صحيح اجتماعياً (بمعنى خلوه من الأمراض الاجتماعية) وهذا هو رهان المستقبل للمجتمعات كافة، الغنية والفقيرة على حد سواء؛ فالمال لا يأتي بمجتمع معافى، ولكن العكس هو الصحيح حيث يأتي المجتمع المعافى من الأمراض الاجتماعية بالمال.
ولنستمر في طرح الأسئلة الصحيحة؛ لماذا لا يلجأ صانعو القرار إلى مركز كهذا لعمل دراسات ميدانية وبحوث واستطلاعات للرأي بشأن قضايا المجتمع السعودي؟
لماذا لا يأتي القرار مستنداً إلى معلومات رصينة مبنية على المنهج العلمي؟
فحين يثبت استطلاع رأي للمركز شمل 1500 طالب جامعي أن الاستقرار المادي يحتل قمة أولويات الشباب السعودي ومواصلة التعليم أقل أهمية؛ ألا يعطي هذا مؤشراً لصانع القرار يساعده على الاستجابة المناسبة للشباب السعودي ومتطلباته؟
إن ضرورة بل حتمية المزج بين التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وتكاملهما وضرورة إعادة توزيع الأدوار بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين هي السبيل لتوقِّي مخاطر الإقصاء والتهميش ولتمتين التكافل بين أفراد المجتمع وفئاته والمحافظة على رأس المال البشري باعتباره دعامة كل عمل تنموي، وليس باعتباره عبئاً على الآخرين وعلى نفسه، إنني لا أدعو بدعوات أن سنة الاقتصاد وفتح الطريق أمام تنمية بشرية متقاسمة تمسّ الجانب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وتراعي القيم والحقوق الأساسية للإنسان من عدل، وسلم وتعاون حتى أستجدي الدور الاجتماعي لرجال الأعمال؛ بل على العكس؛ فإنني أثبت هنا الجدوى الاقتصادية للعمل الاجتماعي، وأحدِّث أصحاب المال والأعمال بما يفهمونه من لغة، وهي لغة المصلحة، فعليك تمويل مركز للدراسات الاجتماعية لعمل استطلاعات رأي ممنهجة واستقصاءات إحصائية رصينة بشأن سلعة تريد ترويجها، أو منتج تريد توزيعه، أو جمهور مستهدف تريد أن تصل إليه.
ولعلني أذكِّر بذلك الهندي الذي أطلق حملة إعلانية في مجتمع عربي عبر ثلاث صور مختلفة تبدأ برجل ضربه العطش والظمأ في الصحراء وهو ممدد يشرف على الموت، والصورة الثانية له وقد شرب المشروب المراد الإعلان عنه، والصورة الثالثة له وقد أصبح في كامل نشاطه وحيويته، ولكن الحملة الترويجية فشلت فشلاً ذريعاً، وحين بدأ الرجل يسأل عن السبب بعد فوات الأوان، علم أن المجتمع العربي كما يقرأ الكلمات من اليمين إلى الشمال؛ فإنه يقرأ الصور أيضاً من اليمين إلى الشمال، بمعنى أنه رأى صورة الرجل النشيط أولاً ثم رآه وقد شرب المشروب، ثم رآه وقد تمدد مشرفاً على الهلاك!!!
إن مفهوم ”القطاع الثالث“ أو "القطاع غير الربحي" يحتاج إلى تأصيل في مجتمعاتنا، صحيح أنه غير رِبحي؛ ولكن الاعتماد على مخرجاته من دراسات واستقصاءات ومعلومات ممنهجة يؤدي بالقطاع الأول (الحكومي) والقطاع الثاني (الخاص) إلى الربح فتكون العلاقة هي علاقة رابح - رابح، وليست علاقة رابح - خاسر كما في البورصة أو في كثير من الأعمال؛ فالسوق وحده لا يستطيع إشباع حاجات المجتمعات ولا بد من تكامل القطاعات الثلاثة على قدم المساواة؛ ليصبح الهدف النهائي لتنمية المجتمع هو المساعدة على تطوير بيئة مادية واجتماعية أكثر ملاءمة لأقصى قدر من النمو والتنمية والسعادة للأشخاص كأفراد وكأعضاء منتجين في المجتمع وذلك من خلال عملية دراسة وتخطيط وتنفيذ منظمة.

كاتب صحافي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي