ضوابط البناء تقتل حرية «الإبداع».. وشهران ليسا كافيَين لتصميم مشاريع «الإسكان»
من ضمن الـ 20 أمرا ملكيا التي صدرت في شهر ربيع الآخر من هذا العام، اعتمد بناء 500 ألف وحدة سكنية في كافة مناطق المملكة، وتخصيص مبلغ إجمالي لذلك قدره 250 مليار ريال. وقد نشر مؤخرا خبر في عدد من الصحف المحلية بأن معالي وزير الإسكان قد وقع كباكورة أعمال تنفيذ هذا الأمر عقد المرحلة الأولى مع شركة "بارسونز" تتولى من خلاله الشركة إعداد التصاميم المناسبة لتنفيذ المرحلة الأولى من مشاريع الوزارة الموزعة في 11 موقعاً في المملكة في مدن: الرياض، الخرج، الدمام، الأحساء، القطيف، جدة، المدينة المنورة، تبوك، وخميس مشيط، تتضمن هذه المشاريع فللا وشققا سكنية يراوح عددها بين 25 و30 ألف وحدة سكنية على مساحة إجمالية تبلغ 32 مليون متر مربع.
ما يقلق في الخبر أعلاه هو أن التصاميم الأولية للمرحلة الأولى من المشاريع المذكورة آنفا سيتم تسليمها للوزارة خلال "شهرين" من تاريخ توقيع العقد! وهذه مدة "قصيرة جدا" لإنجاز التصاميم الأولية لهذا الكم من المواقع والوحدات السكنية إذا ما كانت الوزارة تريد أن تخرج بمشاريع ترتقي إلى المستوى الأدنى، وبالتالي أظن "وإن بعض الظن إثم وليس كله" أن ما ستحصل عليه من تصاميم خلال شهرين ستنتج مشاريع إسكان "تقليدية"، كئيبة، مكتظة، لم تحقق فيها متطلبات السكان ورغباتهم، تتكون من كتل ضخمة من المنشآت الخرسانية، ومسطحات كبيرة من الأسفلت، وقليلة الخضرة، باهظة التكاليف من حيث التنفيذ والصيانة والتشغيل، غير آمنة، وعدوة للبيئة.
إن هذه المشاريع التي ستؤوي أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، هي فرصة قد لا تعوض للوطن والمواطنين، يجب استغلالها بأقصى حد للخروج بمشاريع مميزة "بمقياس عالمي" وليس محلي أو إقليمي، نموذجية، إنسانية، وصديقة للبيئة، كونها مشاريع إسكان حكومية غير ربحية، وبحجم وميزانية كبيرتين، وبمتابعة شخصية من قبل خادم الحرمين الشريفين، وباكورة مشاريع وزارة الإسكان، ووزير جديد وشاب ومتحمس، وفي زمن تتوافر فيه كوادر فنية وطنية لم تكن متوافرة وقت تنفيذ مشاريع الإسكان السابقة، ووجود مشاريع إسكان عامة وخاصة محلية قائمة يمكن الاستفادة منها، وفي عصر تقدمت فيه التقنيات وسهل فيه استقطابها.
ولكي تخرج الوزارة بمشاريع تكون إضافة عمرانية وحضارية وتنموية وبيئية تفتخر بها المملكة والوزارة قبل ساكنيها، يجب أن توسد الأمور في المقام الأول لأهلها، من إداريين واستشاريين ومقاولين، وأن تعطى مرحلة "الدراسات الأولية" الوقت الكافي للاستشاري المكلف لكي يخرج "بمرجع تصميمي" مكتمل ليكون الأساس الذي سيعتمد عليه استشاريو التصميمات العمرانية والمعمارية والهندسية لاحقا.
وليتحقق في كل مشروع ما يؤهله لذلك، يجب أن لا تقيد الوزارة الاستشاريين بضوابط بناء تقتل حرية الإبداع لديهم، وأن ينتمي كل مشروع للمنطقة التي به عمرانيا ومعماريا، وتحترم فيه طبغرافية الموقع ومناخ المدينة، ويربط كل مشروع بمحيطه العمراني وظيفيا، وتحترم فيه متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة، ويشجع فيه السكان على التنقل بين جنباته على الأقدام، به مسارات للمشي الرياضي والترفيهي، ومسارات للدراجات الهوائية، قليل الشوارع، لا يؤثر سلبيا على الحركة المرورية للشوارع المحيطة به ولا يتأثر بها أيضا، به أماكن لتوقف حافلات النقل العام، وتوجد به مواقف سيارات سكان الشقق تحت الأرض، تكثر فيه الخضرة ويقل الأسفلت، تتوافر به ملاعب رياضية ومراكز ثقافية واجتماعية لجميع الأعمار وللجنسين، الخدمات والمرافق العامة مبنية ومشيدة بالكامل حتى لو اضطرت الوزارة إلى تقليص عدد الوحدات السكنية أو بدعم الميزانية، تتوافر فيه ملاجئ طوارئ وصافرات إنذار، وأنظمة تنبيه ومكافحة الحريق، محققة فيه المتطلبات الفراغية لكل وحدة سكنية ومبنى خدمي بشكل مدروس مع مستخدميه، استخدم فيه نظام إنشاء سريع التشييد وغير مكلف، ويمكن بسهولة ورخص إعادة تشكيل الغرف في الوحدات السكنية، مواد بنائه صديقة للبيئة كونها طبيعية أو قابلة للتدوير وغير مهدرة للطاقة في تصنيعها، تستخدم الطاقة الشمسية والهوائية "الرياح" لتغذية سخانات المياه ووحدات الإضاءة وغيرهما في منشآت المشروع خاصة المباني الخدمية والمرافق العامة كالشوارع والحدائق، وتستخدم فيه أيضا أجهزة كهربائية ووحدات إضاءة غير مهدرة للطاقة، به شبكة غاز للطهي والتدفئة مركزية، ويرشد به استهلاك المياه النظيفة ويعاد تدوير مياه الصرف الصحي لتستخدم في أرض كل مشروع في ري النباتات وتغذية صناديق الطرد في الحمامات، احترمت فيه مجاري السيول الطبيعية وجمعت مياه الأمطار من الطرقات وأسطح المباني لاستخدامها في الأغراض المناسبة، به نظام لفرز وجمع النفايات وإعادة تدويرها واستغلالها في نفس المشروع.
وأن لا تنسى الوزارة أيضا الاستفادة من نتائج المسابقة العالمية لتصميم حي سكني في مدينة الرياض تحت مسمى "الحي السكني، سكن وحياة" والمسابقة العالمية لتصميم وحدة سكنية "المسكن السعودي الحديث"، اللتين قامت بهما الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، والمسابقة التي تقوم بها الهيئة السعودية للمهندسين تحت مسمى "مسابقة الأمير سلطان للبناء الميسر"، كما يجب تقييم أوضاع مشاريع إسكان مشابهة محلية مثل مشاريع الإسكان العاجل وحي السفارات وإسكان منسوبي وزارة الخارجية بالرياض، ومشاريع إقليمية مثل الموجودة في دبي وأبو ظبي، وعالمية مثل الموجودة في كوبنهاجن بالدنمارك وإدمنتون بكندا، لتلافي مشاكلها وتحقيق مزاياها، والتواصل أيضا مع مجلس المباني الخضراء (LEED) للحصول على متطلباته وتحقيقها في جميع المشاريع مما سيؤهلها للحصول على شهادة المجلس بعد إنجازها لترتقي بسمعة هذه المشاريع والمملكة عالميا، كما يجب الاستماع "وقبل البدء في أعمال التصميم" لرأي سكان كل منطقة سيقام بها أحد هذه المشاريع وعلى حدة وبمختلف الأعمار من الجنسين من خلال إعداد ورش عمل مفتوحة تخصص لهذا الغرض، وإطلاق موقع إلكتروني للتفاعل معهم طوال مراحل المشروع كون لكل مجتمع خصوصيته حتى داخل البلد الواحد.
لذا ولكي يتحقق ما ذكر أعلاه في هذه المشاريع، فإن إنجاز التصاميم الأولية لها بحاجة إلى"12" شهرا على أقل تقدير وليس "شهرين" فقط، حتى لو مدد زمن المشروع أو استقطع من الوقت المخصص للتنفيذ الذي يمكن الاستعجال به من خلال اختيار أنظمة إنشاء سريعة أو زيادة ساعات عمل المقاول المنفذ اليومية.
وفيما يخص منهج إدارة هذه المشاريع، فإن تشكيل لجنة استشارية "دائمة" من خارج كادر الوزارة، سيساعد بشكل كبير فريق العمل من الوزارة على الإشراف على هذه المشاريع، وتتكون اللجنة من أخصائيين مواطنين وعالميين، مخططين وعمرانيين ومعماريين ومهندسي إنشاءات ومرافق وصيانة وتشغيل، وأخصائيين اجتماعيين وربما نفسيين، وبيئيين، بالإضافة إلى إداريين لمشاريع سكنية عامة وخاصة قائمة في المملكة.
كما أن أفضل الوسائل للحصول على أفكار عمرانية ومعمارية وهندسية ناجحة لأي مشروع خاصة الكبير منها هو عمل (مسابقة فكرية) وليست مالية بين عدد مختار من المكاتب الاستشارية المختصة على مستوى العالمي والوطني، وإشراك المكاتب الاستشارية الوطنية مع المكاتب الاستشارية الأجنبية في حالة فوز الأجنبية بمسابقة أحد هذه المشاريع وذلك لمساندتها في بعض بنود العقد، ولتوطين هذه التجربة في المملكة.
لذا يجب أن لا يكون هم الوزارة الوحيد أو الأكبر هو إنجاز هذه المشاريع بأسرع ما يمكن على حساب الجودة والكفاءة، لكي لا تلام من قبل المسؤولين والمستفيدين على تأخرها، مما يجعلها تخرج بمشاريع غير مناسبة للسكن حتى لو تم ترقيعها بعد تنفيذها من قبلها أو غيرها من الجهات الحكومية، أو من قبل ساكنيها بمساعدة مقاولين ستجدهم متواجدين عند مداخل كل مشروع للقيام بالمطلوب منهم خلال عطل نهاية الأسبوع هربا من أعين مراقبي البلدية، ولتصبح بعد فترة وجيزة متهالكة معماريا وإنشائيا وبالتالي اجتماعيا، مما يجعل ساكنيها المحترمين يضطرون إلى بيع أو تأجير مساكنهم بأبخس الأثمان لمن سيتقبل ذلك الحال، ولتصبح هذه المشاريع بمرور الوقت أوكارا للجرائم الأخلاقية والأمنية.
معماري ومصمم عمراني