Author

أسرار بلاغية مع التدبُّر (2 من 2)

|
إن تدبر كلام الله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، ولو وقفنا مع آية جلسات مطولة لما وسعنا الكلام فيها بالتفصيل والشرح، ولعل شهر رمضان أن يكون محطة روحية لمن أراد العيش في رحاب القرآن بلاغة وتدبرا وشفاءً وتنقية للنفس والروح من عثرات الحياة وأسقام الزمان.. وتبقى البلاغة القرآنية إعجازا يقف أمامها البلغاء مُدهشين منها من سحر بيانها، ومن روائع بلاغة القرآن آية الكرسي وهي أعظم آية فهي تتحدث عن الله - عز وجل - ولاحظ أيها القارئ الكريم أنها بدأت باسم الجلالة الله (مبتدأ)، ثم لاحظ أن كل جملة تأتي بعده تصلح أن تكون خبرا له حتى نهاية الآية! والبلاغة في القرآن تشمل قطب الرحى في بلاغة الخطاب وهما الأهم عن فصاحة القرآن، ويكون التركيز فيها على أمرين: 1- مطابقة الكلام لمقتضى الحال. 2- سمو المعاني وعلو المضامين. ونكمل ما ابتدأناه سابقا في آية التدبر في قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا). فالفاء في قوله: (أَفَلاَ) اختلف في معناها على رأيين: الأول: تدل على العطف، فعطفت الجملة التي بعدها على جملة محذوفة قبلها، وبذلك تكون جملة يتدبرون معطوفة بالفاء على جملة يعرضون أو يشكون المحذوفة. الثاني: الفاء للتفريع على الكلام السابق، ولا حذف، يقول ابن عاشور: ''الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلق بهؤلاء المنافقين''. ومعنى التفريع - كما يفهم من كلام ابن عاشور:ـ أن الفاء للاستئناف، استأنفت كلاما جديدا، لكنه ليس جديدا منقطعا عما سبق، بل جديد متصل به، متفرع عنه، وقد تتبع أحد العلماء الفاء المسبوقة بهمزة الاستفهام، وبعدها لا النافية في القرآن، فوجدها وردت (45) مرة، ولم يتضح له أنها عطفت الفعل بعدها على مقدر قبلها، وما لا يحتاج لتقدير أولى مما يحتاج. وقوله (يَتَدَبَّرُونَ) فعل مضارع من الماضي الخماسي ''تدبر''، وهو ''مشتق من الدبر، أي: الظهر، اشتقوا من الدبر فعلا، فقالوا: تدبر: إذا نظر في دبر الأمر، أي: في غائبه، أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقت من الأسماء الجامدة، وأصل التدبر: النظر في أدبار الأمور وعاقبتها، ويقول ابن منظور: ''دبر الأمر وتدبره: نظر في عاقبته، واستدبره: رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، وعرف الأمر تدبرا: أي بآخره''. هذا هو أصل التدبر كما ذكره اللغويون، ولم يخرج كثير من المفسرين عن ذلك التعريف، وإن اختلفت عباراتهم في ذلك، إلا أن بعض المفسرين المتأخرين توسعوا في هذا التعريف. يقول الشهاب الخفاجي (ت 1069هـ): التدبر: التأمل في أدبار الأمور، وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وإن دل الاشتقاق على أنه النظر في العواقب والأدبار خاصة''. فالتدبر عنده لم يقتصر على عواقب الأمور فحسب، بل امتد ليشمل حقائقها وأسبابها ولواحقها، وغير ذلك على وجه الإطلاق، وهذا المعنى هو الأليق هنا؛ لأن دعوة المنافقين على التدبر في القرآن تقتضي النظر في كل ما يتصل به من حقائقه، وأجزائه وسوابقه، وأسبابه ولواحقه، للإيمان به، والاهتداء إلى صحة النبوة. وعلى هذا التعريف الواسع يكون مصطلح التدبر قد استعمل في حقيقته اللغوية كذلك، ولم ينتقل إلى حقيقة شرعية، أو مجاز. وبذلك يكون التدبر في القرآن: ''هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده، التي يرمي إليها، وعاقبة العامل به، والمخالف له''. والماضي الخماسي: ''تدبر'' على صيغة تفعل، للدلالة على التدرج والتتبع، كما تفيده تلك الصيغة في غالب استعمالاتها. وفي هذا دعوة للمنافقين أن يتدبروا القرآن الكريم مرة بعد مرة، وكرّة بعد كرّة، حتى يصلوا للإيمان به، وبصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم: ''تدبر الكلام: أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة؛ ولهذا جاء على بناء التفعل، كالتجرع، والتفهم، والتبين''. هذه لمحات سريعة في البلاغة القرآنية لمن تدبرها ومن أعظم الكتب التي استفدت منها كتب الدكتور عبد الله بن عبد الغني سرحان، التي حوت كثيرا من المعلومات والفوائد التي يمكن اعتبارها تجديدا في هذا العلم. نسأل الله لنا ولكم القبول والمغفرة والعتق من النيران، وأن يبلغنا ختام هذا الشهر وقد غفر ذنوبنا وأصلح أحوال أمتنا، إنه سبحانه على كل شيء قدير.
إنشرها