Author

الغالب والمغلوب وجحر الضب

|
على واقع حال الأمة العربية والإسلامية من انكسار ثقافي وحضاري جعلها تابعة لا متبوعة وهي تحمل رسالة ربانية، وما هي عليه من مظاهر تأثر بثقافات غربية وشرقية تبرز في عديد من أوجه حياتها المعاصرة، وتخل عن كثير من ركائز هويتها لهويات تلك الثقافات "الغالبة"، ألا يجدر بنا أن نسأل إن كنا اليوم من عناهم رسولنا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ممن أخبر عنهم أصحابه من أنه سيأتي من أمته من يتشبه باليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، وبفارس والروم وهم الأعاجم، في عباداتهم وعاداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، حتى ولو دخلوا حجر ضب لدخلوه؟ وممن تنطبق عليهم نظرية ابن خلدون في أن المغلوب "مولع بالاقتداء بالغالب في زيه وشعاره ونحلته وسائر أحواله وعوائده"؟ من ينظر اليوم في مجمل مظاهر حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يلاحظ كيف استشرى فيها كثير من نحل وأحوال وعوائد ثقافات أخرى، خاصة الغربية منها، ولا نقصد هنا الاستفادة مما فيها من تقدم وتحضر وتطور وابتكارات نافعة ومفيدة، بل المقصود جلب ظواهر ومظاهر سطحية هي أقرب ما تكون بحالات التشبه التي عناها رسولنا - عليه الصلاة والسلام - والولع بالاقتداء بالمغلوب كما قال ابن خلدون، ومن صور ذلك الواضحة والجلية التشبه والتقليد اللغوي في أسماء مثل "مول وبلازا" الأجنبية بدلا من سوق ومجمع العربيتين و"كوفي شوب" عوضا عن "مقهى" الاسم العربي العريق، حتى أن مقهى عريقا وشهيرا وتاريخيا مثل مقهى ريش في القاهرة، أصبح يسمي اليوم "ريش كوفي شوب" جريا وراء العولمة! ناهيك عن جعل اللغة الأجنبية لغة التعاملات التجارية والتعليمية، وكيف غزا ألسنتنا كثير من مفرداتها في تخاطبنا اليومي .. فإذا لم يكن هذا تشبها فماذا يكون؟ ومن هذه الصور أيضا ما عليه حال فئة من شبابنا ممن بات مفتونا ومولعا بتقليد تقاليع وأشكال وأزياء ونحل شباب الغرب في الملبس وقصات الشعور والسلوكيات حتى لو كانت تتعارض مع قيمهم الدينية والاجتماعية، وفي هذا الاندفاع المحموم الولع بتشجيع ومتابعة فرقهم الرياضية ولاعبيها والإعجاب الشديد بها وبهم أكثر من فرقنا ولاعبينا، وإذا لم يكن هذا هو الولع بالاقتداء بالغالب، فماذا يكون إذن؟ هناك فرق وبون شاسع بين التشبه والتقليد من ناحية، وبين التطوير والتحديث من جانب آخر، فليس كل ما نأخذه من غيرنا يدخل في باب التشبه والتقليد، فما فيه منفعة واستفادة هو التقدم والتحديث، وما ليس كذلك تشبه وتقليد أعمى، فالأخذ مثلا بفكرة المجمعات التجارية، تطوير وتحديث، لكن حين نأخذها بأسمائها "المول والبلازا والسنتر"، فهذا هو التشبه والتقليد بلحمه وشحمه. إن أردنا أن ننهض ونتقدم ونلحق بالعالم الأول، ولدينا كل سبل وإمكانات ذلك، فلا يكون بالتشبه والتقليد حذو القذة بالقذة، بل نأخذ من غيرنا ما هو نافع وما يسهم في تقدمنا وتطورنا وتطبيقه بهويتنا وشعارنا وزينا ونحلتنا نحن لا هم، وألا نكون فعلا ممن حذر من التشبه بهم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والمغلوب المولع بالاقتداء بالغالب مثلما قال ابن خلدون حتى جحر الضب.
إنشرها