Author

السياسة المنحرفة والأزمة المالية

|
في إطار محاولة فهم نمط وتوقيت التدخلات الحكومية أثناء أي أزمة مالية، ربما كان من المحتم أن نخلص إلى حقيقة مفادها أن السياسة تحركها حوافز ودوافع لا قِبَل لأهل الاقتصاد بفهمها. والواقع أن المشكلة بسيطة من المنظور الاقتصادي. فعندما تتدهور بالقدر الكافي قدرة أي جهة سيادية مقترضة على الوفاء بديونها، فإن قدرتها على البقاء تصبح متوقفة على توقعات السوق. فإذا توقع الجميع أن إيطاليا قادرة على سداد ديونها، فسيقرضون إيطاليا بأسعار فائدة منخفضة. وستتمكن إيطاليا من الوفاء بالتزاماتها الحالية، والتزاماتها في المستقبل على الأرجح. ولكن إذا بدأ العديد من الناس في التشكك في قدرة إيطاليا على الوفاء بديونها فطالبوا بعلاوة مخاطر كبيرة لإقراضها، فهذا يعني أن العجز المالي الذي تعانيه البلاد سيتفاقم، وستعجز في أغلب الظن عن سداد ديونها. والواقع أن تمتع مقترض مثل إيطاليا بتوقعات جيدة أو انزلاقها إلى سيناريو قاتم يعتمد في الأغلب على بعض ''الأنباء المتناظرة''. فإذا توقع الجميع أن يتسبب خفض درجة التصنيف الائتماني في جعل الديون الإيطالية غير محتملة، فإن إيطاليا ستعجز بالفعل عن سداد ديونها بعد خفض درجة تصنيفها، بصرف النظر عن التأثيرات الاقتصادية الحقيقية المترتبة على خفض درجة التصنيف. وهذه هي لعنة ما يطلق عليه أهل الاقتصاد التوازنات المتعددة: فبمجرد أن أتوقع أن يهرع آخرون إلى المخرج، فالتصرف الأمثل بالنسبة لي هو أن أركض إلى المخرج أنا أيضا؛ لكن إذا ظل الجميع ساكنين فلا مصلحة لي في الركض إلى المخرج. وفي ضوء هذه الديناميكية الاقتصادية، هناك كما يبدو وصفتان سياسيتان واضحتان. الأولى مفادها أنه من الخطورة بمكان بالنسبة لأي دولة أن تقترب ولو من بعيد من النقطة التي قد تودي بها إلى الإفلاس بسهولة. ففي حين لا يدري أحد على وجه التحديد أين يبدأ هذا المستوى الخطير، فمن الواضح متى تنطلق أجراس الإنذار. ونظرا للتكاليف الهائلة المترتبة على التخلف عن سداد الديون، فإن أي حكومة لا بد أن تظل بعيدة عن منطقة الخطر. وتفترض الوصفة الأخرى أنه إذا ما انتهت الحال بأي دولة لأي سبب إلى منطقة الخطر فإن الأمر لن يخرج عن اثنتين من الاستجابات التي قد تكون منطقية من الناحية الاقتصادية. فإما أن يدرك المسؤولون على الفور حتمية التخلف عن سداد الديون فلا يهدرون أي موارد في محاولة لمنعه، أو أن يتصوروا أن تجنب التخلف عن السداد أمر ممكن فيكرسون كل الموارد المتاحة لهم بأسرع وقت ممكن. وكما هي الحال في العديد من الحروب، فإن التصعيد المنظم في أي أزمة مالية يؤدي غالبا إلى أسوأ النتائج المحتملة: الهزيمة والخسارة الفادحة. وهذه للأسف قصة تدخل السلطات الأمريكية أثناء الأزمة المالية في عام 2008. فبعد انهيار بير شتيرنز، بات من الواضح أن المزيد من المشاكل قادم في الطريق، ورغم ذلك لم تفعل حكومة الولايات المتحدة أي شيء. ففي تموز (يوليو) من عام 2008، عندما تبين إفلاس فاني ماي وفريدي ماك (وكالات الإقراض السكني المدعومة من الحكومة)، وعد وزير الخزانة آنذاك، هانك بولسون، بمعالجة الأمر بكل قوة، لكن ما حدث كان العكس تماما؛ إذ لم يذهب بولسون إلى الكونجرس للمطالبة بـ700 مليار دولار لدعم استقرار النظام المالي إلا بعد انهيار ليمان براذرز. وحتى ذلك المبلغ تبين أنه لم يكن كافيا. ويبدو أن المهزلة نفسها تجري في أوروبا الآن. فإذا تصور المسؤولون الأوروبيون أن اليونان تحتاج إلى الإنقاذ، فإن التدخل الأوروبي الفوري لمصلحة اليونان كان ليقلص الموارد المطلوبة إلى أدنى حد ممكن. وإذا تصوروا أن اليونان لا بد أن تفلس، فإن القرار الفوري في ذلك الصدد كان من شأنه أن يقلص التكلفة إلى أدنى حد ممكن أيضا. والآن أصبحنا بالفعل عند الجولة الثانية من التدخل، ولا تلوح أي نهاية قريبة في الأفق. وفي الوقت نفسه، تغرق إيطاليا. قد يزعم البعض أن الساسة يتصرفون على هذا النحو؛ لأنهم لا يفهمون الطبيعة الاقتصادية للأزمة. لكنني لا أتفق مع هذا الرأي. ففي اعتقادي أن ما يقودهم إلى التصرف على هذا النحو ليس الافتقار إلى المعرفة، بل الحوافز الشاذة المنحرفة. فأولا وقبل كل شيء، من الصعب حتى في نظر أصحاب أفضل الدوافع أن يضطروا إلى اختيار تكلفة أصغر لا بد أن تدفع الآن بدلا من تكلفة أضخم قد تُستحق في المستقبل. وبالنسبة لسياسي منتخب من غير المرجح أن يظل في منصبه (أو حتى على قيد الحياة) عندما تستحق التكلفة الأضخم، فإن الخيار يصبح واضحا. ولهذا السبب تتراكم الديون على الدول إلى مستويات تدفعها إلى منطقة الخطر. وثانيا، لا يشتمل الأمر على مكافأة سياسية يحصل عليها من يخوض حربا وقائية، في حين يسفر العمل بعد تفجر المشاكل عن رأسمال سياسي عظيم. فلو نجح فرانكلين روزفلت في منع هجوم بيرل هاربور بتوجيه ضربة وقائية إلى اليابان، لكنا حتى الآن لا نزال نناقش ما إذا كانت الحرب ضد اليابان حتمية. أي أن روزفلت انتظر إلى ما بعد وقوع الكارثة ليتحرك، ورغم ذلك نال مكانة المنقذ. إن الساسة يحتاجون إلى الإجماع حتى يصبح بوسعهم أن يتحركوا، وهو ما ينشأ غالبا إلى أن تصبح التكاليف المترتبة على التقاعس عن العمل واضحة وضوح الشمس. وعند تلك النقطة يصبح من المستحيل في كثير من الأحيان تجنب نتيجة أسوأ كثيرا. إن مثل هذه الحوافز والدوافع حاضرة في كل الأنظمة الديمقراطية. ولا يمكن القضاء عليها، لكن من الممكن تخفيف آثارها. وكان ميثاق الاستقرار والنمو الأوروبي بمثابة جهد مبذول لتحقيق هذه الغاية على وجه التحديد - من خلال خلق الحوافز الكفيلة بحمل دول منطقة اليورو على الابتعاد عن منطقة الديون الخطرة. ولكن من المؤسف أن فشل ذلك الميثاق كان ذريعا. ولكن إذا كان لليورو أن ينجو من هذه الورطة - وإذا كان للدول الأخرى أن تتجنب الانزلاق إلى أزمات الديون السيادية - فنحن ما زلنا في احتياج إلى قواعد لا يستطيع الساسة ليها والتلاعب بها. خاص بـ ''الاقتصادية'' حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011
إنشرها