Author

اللعب بالنار

|
في نهاية التسعينيات الميلادية، كانت الدول المتقدمة تلقن دول جنوب شرق آسيا دروسا في كيفية الإدارة الحصيفة لاقتصاداتها؛ لتجنب تكرار ما وقعت فيه خلال الأزمة الآسيوية. اليوم الدول المتقدمة نفسها تعيش وضعا أسوأ مما عاشتها آسيا خلال فترة التسعينيات، لكن بدلا من أن تأخذ الدرس من أصحاب التجربة، أصبحت هي من يلقن الدرس لنفسها، والنتيجة أنها وقعت في حالة من الإنكار للواقع، وصراع سياسي حول الطريقة المثلى للخروج من المشكلة، وتأجيل للمشكلة يوما بعد يوم؛ خوفا من مواجهة الواقع. مشكلة اليونان بدأت منذ أيار (مايو) من عام 2010، وبدلا من الخروج بحل جذري للمشكلة، وقع الأوروبيون في حالة من الإنكار لحقيقة يعرفها الجميع، وهي أنه لا مخرج لليونان من أزمتها دون إعادة هيكلة ديونها، بمعنى الدخول في حالة إفلاس والتفاوض مع الدائنين حول قيمة الديون. وبعد عام من بداية المشكلة، عاد الأوروبيون إلى نقطة الصفر، وهي القبول بما أطلقوا عليه (إفلاس اختياري)، حيث تتلقى البنوك التي لا ترغب في إعادة تدوير ديونها على اليونان تخفيضا في قيمة هذه الديون بواقع 21 في المائة. التجاذب السياسي كان سببا رئيسا في تأجيل حل مشكلة اليونان، وانتشار المشكلة إلى دول أخرى، كإيرلندا، والبرتغال، ومواجهة كل من إيطاليا وإسبانيا - ثالث ورابع اقتصاد في منطقة اليورو - التهديد نفسه. الخوف من الناخبين كان سببا رئيسا في تردد أنجيلا ميركل في اتخاذ قرار بشأن انتشال اليونان من مشكلتها من البداية، والخوف من التأثير على البنوك الفرنسية كان سببا رئيسا أيضا في إطالة أمد المفاوضات بين الأوروبيون حول تعديل برامج التقشف الاقتصادي، والدخول في برنامج جديد وطويل الأمد لدعم اليونان. إطالة أمد هذه المفاوضات لم تكن مجانية، ففي كل يوم يزداد القلق من قبل المستثمرين، وتتعاظم المخاطر، ويبدأ المقرضون في إعادة حساباتهم، وتبدأ شركات التصنيف الائتماني في إعادة تصنيف الوضع الائتماني؛ مما يزيد من تكاليف الانتشال. الأوروبيون لم يخرجوا بحل سريع؛ لذلك هم يدفعون الآن ثمنا باهظا لانتشال اليونان. الافتقار إلى القيادة التي تفكر فيما هو أبعد من إعادة الانتخاب، كان سببا رئيسا في ذلك. الأمر يتكرر في الولايات المتحدة مع اقتراب التاريخ المحدد لرفع سقف الدين العام. فحتى وقت كتابة هذا المقال، يترقب العالم نتائج المفاوضات التي تتم بين الجمهوريين والديمقراطيين حول الاتفاق على برنامج موازنة طويل الأمد يهدف إلى تخفيض العجز والدين العام على المدى الطويل. فالجمهوريون ربطوا أي موافقة للكونجرس على رفع سقف الدين بالاتفاق على تخفيضات كبيرة في الإنفاق، مع عدم زيادة أي إيرادات سواء بزيادات ضريبية جديدة، أو من خلال إلغاء الاستثناءات الضريبية. ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة التي بنت قاعدتها الاقتصادية على أساس الائتمان القوي والموثوق، تكون عرضة للإفلاس. لأول مرة تصل السياسة الداخلية الأمريكية إلى حد المخاطرة بالوضع الائتماني للولايات المتحدة، ومن ثم المخاطرة بالوضع الاقتصادي العالمي، لتحقيق أهداف انتخابية بحتة، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه الذي وجهه إلى الشعب الأمريكي. لم يتصور أقطاب السياسة في الولايات المتحدة أنهم بمجرد المخاطرة بفكرة (إمكانية الإفلاس) فإنهم قد يعرضون مستقبل الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء للمخاطرة. فمؤسسات التصنيف الائتماني تراقب بحذر الآن موضوع الاتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبناءً عليه ستحدد ما إذا كانت ستراجع تصنيف الولايات المتحدة أو الإبقاء عليه. فإقحام سقف الدين في المفاوضات حول الموازنة، يعني ربط فكرة الإفلاس - التي كانت غير محتملة في السابق - بعجز الموازنة. فإذا كان العجز المتفق على تخفيضه غير كافٍ لإعادة الدين العام إلى وضع أكثر استقرارا، فإن تخفيض التصنيف الائتماني سيكون حتميا، حتى في حالة الموافقة على رفع سقف الدين. في حين في السابق لم يكن هناك تأثير كبير لعجز الموازنة المتزايد تأثير على التصنيف الائتماني، لقدرة الولايات المتحدة على إصدار المزيد من الدين لتغطية هذا العجز، ودفع الفائدة فقط على هذا الدين. أي أن الميزة الكبرى التي سمحت للولايات المتحدة بإصدار المزيد من الدين العام، واستمرار الطلب الكبير على هذا الدين من أكبر الدائنين في العالم، قد تنتهي على أيدي هؤلاء الساسة. لكن ماذا سيترتب على كل ذلك؟ هناك سيناريو مختلف تبعا لكل نتيجة: الأول في حالة بلوغنا يوم الثاني من آب (أغسطس)، ولم يتم الاتفاق على رفع سقف الدين العام، والثاني بلوغنا التاريخ نفسه، وتم التوصل إلى اتفاق. في الحالة الأولى ستكون عملية تخفيض التصنيف الائتماني حتمية، لكن لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستخفق في السداد؛ لأنها يمكن أن تستمر في سداد الفائدة من الإيرادات الضريبية التي يمكن أن تحصلها. لكن ذلك سيكون على حساب الإنفاق على العناصر الأخرى في الميزانية، كالدفاع والرعاية الصحية، والتعليم، ورواتب موظفي الحكومة الفيدرالية. لكن المشكلة أن تخفيض التصنيف الائتماني سيؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة، ومن ثم انخفاض الاستثمارات، وزيادة معدلات البطالة، ومن ثم انخفاض الإيرادات الضريبية نفسها. بمعنى آخر، سيكون لذلك تأثير على الإيرادات بتخفيضها، وعلى المصروفات بزيادتها؛ نظرا لزيادة أعباء تعويضات البطالة وتكاليف الرعاية الاجتماعية وغيرها. في حالة التوصل إلى اتفاق، فالنتيجة ستعتمد على تقييم شركات التصنيف لهذا الاتفاق، وما إذا كان كافيا أم لا. فإذا اعتقدت أنه لن يؤدي إلى تحقيق الاستقرار على المدى الطويل، فإنها قد تلجأ إلى تخفيض التصنيف الائتماني، مما قد يؤدي إلى سيناريو مشابه للسيناريو الأول.
إنشرها