أزمة الدَّين الأمريكية .. شراء الوقت لإعادة ترتيب البيت المالي
قبيل انتهاء اجتماعه مع أعضاء الكونجرس في منتصف الشهر الجاري، نظر باراك أوباما إلى إريك كانتور، زعيم الأغلبية في مجلس النواب الذي كان يضغط لكي يتخذ الجمهوريون موقفا متشددا ضد أية زيادات في الإيرادات أثناء المحادثات المتعلقة بالدَّين الوطني.
''لقد بلغ السيل الزبى''، قال الرئيس قبل أن ينهض من مقعده ليغادر الاجتماع، وذلك حسب رواية صادرة عن مكتب كانتور:''قد يجعلني هذا أخسر رئاستي، لكنني لن أستسلم في هذا الشأن''.
اكتسب الرئيس لقبه ''أوباما بدون دراما'' من خلال حملة شرسة للفوز بالرئاسة قام بها في عام 2008 والتغلب على الأزمات التي واجهتها رئاسته منذ ذلك الوقت. لكن برودة أعصابه وصلت إلى أبعد الحدود في مفاوضات الميزانية التي ترهق الأعصاب.
تعتبر زيادة سقف الاقتراض للبلد أمرا بالغ الأهمية لكي يتمكن من خدمة ديونه ولمواصلة تسيير الحكومة الاتحادية. وإذا انهارت المحادثات فيمكن أن تعجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها - وهو حدث مزلزل يمكن أن يفعل أكثر من الأضرار بتعافي البلد الهش ويؤثر سلبا على الاقتصاد العالمي المبتلى أيضا بمتاعب الدين الأوروبية. ومن شأن فشل الديمقراطيين والجمهوريين في التوصل إلى اتفاق أن يدل بوضوح كيف لن يعود بإمكان نظام سياسي محلي يتزايد عجزه عن العمل أن يدير الخلافات الحزبية بشكل ناجح.
وبالنسبة إلى عالم ما زال ينظر للولايات المتحدة من أجل الزعامة الاقتصادية، والسياسية والدبلوماسية، ستكون هذه لحظة عصيبة. يقول ستيفن ويستنج المحلل في بنك سيتي جروب: ''إن السؤال كيف يمكن أن يبدو اقتصاد الولايات المتحدة بعد عجز محتمل عن السداد من قبل وزارة الخزانة الأمريكية يشبه سؤال ما الذي ستفعله بعد أن تنتحر؟''.
لقد قامت الجهات المؤثرة في الأسواق المالية بالفعل برسم خط في الرمال عندما هددت وكالة موديز للتصنيف بخفض تصنيف الولايات المتحدة بسبب أزمة الميزانية. وقد حذر رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي بن بيرنانكي من أن العجز عن السداد سيشكل ''كارثة مالية''.
ففي آخر مرة فشل فيها الكونجرس في التوصل إلى اتفاق بشأن حزمة للانقاذ المالي - وكان ذلك في عام 2008 عندما صوّت في البداية ضد برنامج إنقاذ الموجودات المتعثرة في أوج الأزمة المصرفية - انخفضت سوق الأسهم بنسبة 10 في المائة تقريبا.
إن أوباما منهمك الآن في محادثات يومية يجريها في البيت الأبيض مع زعماء الكونجرس من أجل التوصل إلى اتفاق. ويعتبر ستيني هوير، وهو ثاني أعلى شخصية ديمقراطية في مجلس النواب، من بين كثيرين في واشنطن ممن يحذرون من حدوث أزمة مالية أخرى إذا فشلوا في التوصل إلى اتفاق.
ما المشكلة؟
عندما غادر بيل كلينتون البيت الأبيض في عام 2001، ترك لجورج دبليو بوش فائضا صحيا، لكن ذلك الفائض تبخر خلال الأعوام الثمانية التالية - نتيجة حربين باهظتي الثمن ونتيجة للتخفيضات الضريبية التي أعطيت للأمريكيين الأثرياء ونتيجة للركود الاقتصادي.
وقد ألحق الركود الاقتصادي الشديد الذي أعقب الأزمة المالية في عام 2008 ضررا كبيرا بالإيرادات الضريبية. وقد تسبب برنامج التحفيز الذي بلغت قيمته 700 مليار دولار والذي دفع به أوباما من خلال الكونجرس في تضخيم العجز ليصبح أكثر من 10 في المائة من الناتج الاقتصادي. وتقترض الولايات المتحدة الآن نحو 40 سنتا على كل دولار تنفقه.
لكن العجز الدوري هو بطرق كثيرة جزء صغير من المشكلة. إن المشكلة الحقيقية تكمن في وقت لاحق في العقد، عندما سيتسبب السكان الذين يتقادمون في السن بزيادة تكاليف بزيادة مجموعة من البرامج الحكومية الشعبية.
فقد حذر مكتب الميزانية غير الحزبي في الكونجرس من أن الدين الاتحادي في أحد السيناريوهات المحتملة للخيارات السياسية يمكن أن يوازي أكثر من 100 في المائة من الحجم السنوي للاقتصاد في عام 2021 وسيصل إلى قرابة 190 في المائة بحلول عام 2035.
ويحذر الخبراء الاقتصاديون من أن تداعيات ذلك مميتة. ذلك أن تكلفة خدمة الدين يمكن أن تؤدي إلى حدوث قفزة في أسعار الفائدة، وإلى تراجع في الاستثمار الخاص وإلى تراجع أساسي في قوة الولايات المتحدة.
إن الطبيعة المزدوجة لمشكلة العجز - نقص حاد في المدى القصير يترافق مع فجوة عميقة في المدى الطويل - يجعل التوصل إلى اتفاق بين البيت الأبيض والديمقراطيين وبين الجمهوريين أكثر صعوبة. وهناك إجماع عام بأن خطة لتقليص العجز بنحو أربعة آلاف مليار دولار في العقد المقبل يمكن أن تكون كافية لتحقيق الاستقرار في مستويات دين البلد ووضعها على أرضية مالية أصلب، لكن صفقة بهذا الحجم قد لا تكون ممكنة التحقيق. وبدلا من ذلك، قد يستقر رأي المشرعين على اتفاق أكثر محدودية بقيمة تقارب ألفي مليار دولار، من دون معالجة المسائل طويلة المدى كالإنفاق الصحي. ومن شأن هذا ببساطة أن يؤخر حل المشكلة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونجرس في عام 2012 على أقل تقدير.
ومن شأن هذه الاتفاقية أن تترك الجانبين غير راضيين. وعلاوة على ذلك، ومع استفحال معدلات البطالة العالية، يدفع البعض لتضمين إجراءات تحفيزية جديدة في هذه الحزمة. ولكن مع توقع ارتفاع مستوى التوترات السياسية مع اقتراب الانتخابات، ربما تكون هذه هي الفرصة الوحيدة لتمرير الدعم الحكومي للاقتصاد في المدى القريب.
ماذا يريد الكونجرس؟
تعتبر معظم المفاوضات عملية أخذ ورد لا يحصل فيها أي من الطرفين على كل ما يريد، لكن الجمهوريين تناولوا محادثات الدين بصورة مختلفة جدا.
لقد أعطى المقترح الأصلي الذي تقدم به الرئيس باراك أوباما الجمهوريين صفقة تعكس يدهم العليا في الجدل الدائر حول العجز، وذلك بناءً على النقطة الوحيدة التي أكدوا عليها طيلة العام، وهي الحاجة العليا إلى خفض الإنفاق.
إن خطة أوباما التي تقضي بخفض العجز بمبلغ أربعة آلاف مليار دولار على مدى عشرة أعوام كانت تتألف في نسبة 70 - 80 في المائة منها على شكل تخفيضات، أما النسبة المتبقية فكانت تتألف من إيرادات. وكانت تميل بشكل كبير نحو الاقتطاعات، بما في ذلك إلغاء البرنامجين الاتحاديين شبه المقدسين، وهما برنامج التقاعد والبرنامج الصحي الخاص بالمتقاعدين، لدرجة أن زملاءه الديمقراطيين اعترضوا على ذلك.
وقالت نانسي بيلوسي، الرئيسة السابقة لمجلس النواب وممثلة اليسار الليبرالي: إنه لا يمكن أن تكون هناك ''اقتطاعات في الميزات الخاصة بالرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي''.
ويمكن للبعض في اليمين أن يتفهموا أسباب قلق السيدة بيلوسي. فقد أطلق ديفيد بروكس، وهو كاتب عمود محافظ في صحيفة ''نيويورك تايمز''، على الاقتراح الذي قدمه أوباما ''صفقة القرن''.
وكتب يقول: ''لو كان الحزب الجمهوري حزبا عاديا، لاستفاد من هذه اللحظة المدهشة واستغل الفرصة لوضع حد طويل الأجل على نمو الحكومة''.
لكن حزب الشاي غير موقف الجمهوريين الذين رفضوا النظر في أي زيادة للإيرادات. ففي وقت من الأوقات، ربما كانت هناك بعض المرونة في الموقف المحافظ، لكن حزب الشاي اشترى نقاط الأعضاء الجدد في الكونجرس بقليل من الولاء لمؤسسة الجمهوريين.
يقول نورم اورنشتاين من معهد انتربرايز الأمريكي، وهو مؤسسة فكرية: ''لقد جاءوا إلى المدينة لكي يغيروا واشنطن ويغادروا بعد ذلك''.
إن موقف الديمقراطيين يتضمن مخاطر بدوره. فقد سمحوا للجمهوريين طيلة العام بأن يأخذوا زمام المبادرة في موضوع العجز، رافضين تقديم مقترحاتهم فيما يتعلق بالميزانية ومراهنين على عدم تمكن معارضيهم من تحقيق غايتهم.
لقد أثبتت خطة الجمهوريين الخاصة بالاقتطاعات أنها لا تحظى بالشعبية، لكن اليمين مع ذلك وضع شروط النقاش والجدل. فلم يترك الجمهوريون الديمقراطيين خلفهم في الجدل الدائر حول السياسة فحسب - بل كان الرئيس أوباما في الأسابيع الأخيرة يهدد بعمل الشيء نفسه.
ماذا يريد البيت الأبيض؟
بالنسبة لباراك أوباما، تمثل المفاوضات حول سقف الدين فرصة سياسية ثمينة - فرصة لكي يجنب الرئيس نفسه الفكرة الضارة التي تقول إنه لبرالي ''كبير في الحكومة''.
وكما فعل بيل كلينتون في عام 1995، فإن إبرام صفقة عظيمة مع منافسيه السياسيين - أحدثت تقليصات في برامج مثل الرعاية الطبية والمساعدة الطبية، والاتفاق في الوقت نفسه على إجراء إصلاح ضريبي شامل - يمكن أن يدمغ سمعة أوباما بأنه شخص وسطي على استعداد لأن يتحدى حزبه من أجل إصلاح العجز.
ففي مؤتمر صحافي عقده في الآونة الأخيرة، ألمح أوباما إلى أجندة أكثر طموحا حتى، ترمي للتوصل إلى صفقة كبيرة تكفي لتهيئة الأرضية المالية للولاية الثانية التي يريدها، والسماح له في الوقت نفسه بالتركيز على المسائل الأخرى.
وقال أوباما: ''إذا كنتَ تقدميا يهتم بالاستثمارات في برامج قروض الطلبة والأبحاث الطبية والبنية التحتية، فلن نتمكن من تحقيق تقدم في هذه المجالات إذا لم نرتب بيتنا المالي''.
لكن جنيفر دوفي العضو في تقرير كوك السياسي، وهو رسالة إخبارية من واشنطن، تقول: إن من الحصيف أن يعتقد أوباما بأنه يستطيع أن يكرر قوة كلينتون السياسية في تسعينيات القرن الماضي. إن المخاطر ليست فقط أعلى في المفاوضات الخاصة بسقف الدين مما كانت عليه بالنسبة لكلينتون عندما أبرم صفقة لموازنة ميزانية البلد، بل إن البيئة السياسية كانت أقل استقطابا مما هي عليه اليوم.
إن الاقتطاعات والإصلاحات الأخرى على المستحقات قيد النقاش، بما في ذلك احتمال زيادة السن الأدنى للاستحقاق بالنسبة لمتلقي الرعاية الصحية من 65 - 67 عاما، تنطوي أيضا على خطر تنفير الكثير من مؤيدي أوباما.
تقول السيدة دوفي: ''إن الظهور بمظهر الوسطي شيء، لكن يتبقى عليه أن يكون حذرا بشأن جناحه الأيسر. إنه يسير على خط دقيق للغاية هنا؛ ولذلك فإن الأمر يعتمد حقا على الشكل الذي تبدو عليه الصفقة. ففي نهاية المطاف، يريدون أن يتجنبوا العجز عن السداد ويريدون صفقة يمكن أن يظهروا فيها بأنهم ربحوا أكثر مما خسروا''.
ولكن يترتب على أوباما أن يتغلب على أكثر من الديمقراطيين لكي يحقق صفقة؛ إذ يقول الجمهوريون: إن الصفقة العظيمة بين أوباما وجون بويهنر، الرئيس الجمهوري لمجلس النواب، انهارت ليس فقط بسبب الخلافات حول رفع الضرائب، بل لأن بويهنر لم يثق بأن الديمقراطيين سينفذون إصلاح نظام الاستحقاقات.
ماذا لو فشلت المحادثات؟
منذ أشهر، يحذر وزير الخزانة تيم جايثنر الكونجرس من المخاطر التي يمكن أن تترتب على عدم رفع سقف الاقتراض الأمريكي.
لكن الرئيس باراك أوباما نفسه تدخل أخيرا ليتحدث عن تداعيات العجز عن السداد. ففي يوم 3 آب (أغسطس)، وهو اليوم الذي يلي الموعد النهائي، كان من المقرر أن تصدر الحكومة نحو 70 مليون شيك، كما قال الرئيس: ''ليست المسألة مسألة شبكات ضمان اجتماعي فقط. هذه شيكات للمحاربين القدامى. هؤلاء أناس مصابون بالعجز وهذه شيكاتهم''.
ومن دون التوصل إلى صفقة، ما يعني أن ''الخزائن لم تكن مليئة'' فإنه لا يستطيع أن يضمن إرسال الشيكات، كما قال.
ومن شأن العجز عن السداد أن يكون كابوسا لوجستيا، واقتصاديا وسياسيا. ومن الناحية الفعلية، سوف يترتب على حكومة الولايات المتحدة أن تنشغل في مجهود هائل لترتيب الأولويات لتحديد الدفعات التي هي على استعداد لإجرائها والدفعات التي تختار توقيفها.
وسوف يتعين وضع المستثمرين الدوليين في السندات كالصين، ومقاولي الحكومة ومتلقي خدمات الرفاه الاجتماعي، والمعاشات التقاعدية وغيرها من الميزات في طابور بسبب ما يقدر مركز السياسات الحزبية، وهو مؤسسة فكرية في واشنطن، أن يصل إلى خفض فوري وتلقائي بنسبة 45 في المائة في الإنفاق الحكومي. إن هذا الخفض المالي الكبير يضاف إليه زيادة تكاليف الاقتراض، وانخفاض محتمل في ثقة المستهلكين وخسارة للتصنيف الائتماني، بدرجة AAA، الذي يتم التبجح به، يمكن أن يغرق الولايات المتحدة في ركود جديد. وسيكون لهذا تداعيات شديدة على بقية العالم.
لقد وصل انعدام الثقة السياسية إلى مستوى جعل الكثير من الجهوريين - ومن بينهم مايكل باكمان، المرشح المحتمل الذي يحظى بفرصة قوية للوصول إلى البيت في عام 2012 - يقولون إن الإدارة منهمكة في تكتيكات الإخافة ودب الرعب في قلوب الناس. وإلى جانب المواليين الآخرين من حزب الشاي اليميني، فإنهم يجادلون بأن الموعد النهائي في 2 آب (أغسطس) خرافة، مضيفين أن الحكومة تستطيع أن تدفع الفائدة على قروضها من دون أن تعجز عن السداد.
وفي داخل البيت الأبيض، فإن المفاوضات لا تسير بشكل جيد. فبعد اجتماع منتصف الشهر الجاري، خرج أوباما من الغرفة فجأة بعد نقاش ساخن.
وحسب أحد الديمقراطيين الذي كان حاضرا، أنهى الرئيس الاجتماع ملاحظا أن طبيعة المحادثات تؤكد ما قاله الكثير من الناس عن واشنطن.
وذكر أنه قال للمجتمعين: ''لقد طفح الكيل. سأراكم جميعا في الغد''.