Author

الدَّين العام الأمريكي

|
الدين العام لأي دولة هو محصلة العجز المتراكم في الميزانية العامة لها، ويعد العجز في الميزانية محصلة قوتين متناقضتين، أي تعملان في اتجاه معاكس، القوة الأولى هي الإيرادات العامة، والثانية هي النفقات العامة، فإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من إيراداتها العامة يحدث عجز في الميزانية، ومن ثم لا بد أن تقوم الحكومة بتمويل هذا العجز، والذي يفترض أن يتم أساسا من خلال الاقتراض، أي من خلال طرح السندات الحكومية للبيع للمستثمرين من الفئات المختلفة، وهو ما يرفع من حجم الدين العام للدولة من الناحية المطلقة، وإذا كان معدل النمو في الدين العام للدولة أكبر من معدل النمو في الناتج الحقيقي لها، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تميل نحو التزايد أيضا، وبالطبع يحدث العكس في حالة تحقيق الميزانية لفوائض. الدين العام الأمريكي أصبح حديث العالم في الفترة الأخيرة نتيجة المخاوف السائدة حاليا من احتمال توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها في الثاني من آب (أغسطس) المقبل، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حول رفع سقف الدين الأمريكي على النحو الذي قمت بتحليله في مقالين في "الاقتصادية" الشهر الماضي، ولكن ما الدين العام الأمريكي؟ ولماذا ينمو على هذا النحو الذي يثير قلق العالم حاليا؟ وما اتجاهاته المستقبلية؟ وهل يمثل الدين العام الأمريكي تهديدا حقيقيا للاقتصاد الأمريكي وللاقتصاد العالمي؟ هذا ما سأحاول أن أتناوله بالتحليل في هذه السلسلة من المقالات عن الدين العام الأمريكي. #2# ينقسم إجمالي الدين العام الفيدرالي في الولايات المتحدة إلى قسمين، الأول هو الدين العام المملوك بواسطة الجمهور، والثاني هو الدين العام المملوك بواسطة الحسابات الحكومية الفيدرالية، الأمر الذي يعني أن جانبا من الدين العام الأمريكي هو عبارة عن دين حكومي مملوك لجهات حكومية، ويقصد بالدين المملوك بواسطة الجمهور السندات التي يشتريها الأفراد والمؤسسات المالية المختلفة، مثل البنوك، بما في ذلك بنوك الاحتياطي الفيدرالية، وشركات التأمين والأجانب، مثل البنوك المركزية لدول العالم المختلفة وصناديق الثروة السيادية. أما الدين المملوك بواسطة حسابات حكومية فهي السندات التي تشتريها الصناديق الحكومية، ومن أهم الحسابات الحكومية المالكة للدين العام الأمريكي صناديق الضمان الاجتماعي وصناديق المعاشات للمدنيين وصناديق المعاشات للعسكريين وصناديق الرعاية الصحية. من بين هذين المقياسين للدين العام يتم التركيز بصورة أساسية على نسبة الدين العام المملوك بواسطة الجمهور إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي تبلغ اليوم نحو 63 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي، وتنبع أهمية الدين المملوك بواسطة الجمهور من أنه يوضح درجة المزاحمة Crowding out التي تقوم بها الحكومة للقطاع الخاص في سوق الائتمان الخاص، حيث يمتص هذا الدين المدخرات المحلية الخاصة وكذلك المدخرات الأجنبية التي تتدفق إلى الولايات المتحدة، ومن ثم ينافس الاستثمارات في القطاع غير الحكومي. من ناحية أخرى، فإن الحكومة يمكنها تأجيل خدمة الديون المملوكة للحسابات الحكومية دون أن تتأثر ملاءتها الائتمانية، بعكس الحال بالنسبة للدين المملوك للجمهور، حيث يتراجع التصنيف الائتماني للدولة بصورة كبيرة في حال توقفها عن خدمة هذا الدين، وهو ما يرفع من تكاليف الاقتراض للدولة بصورة كبيرة. في عام 2010 بلغت الأرقام الفعلية لإجمالي الدين العام الأمريكي 13.528 تريليون دولار، منها 9.018 تريليون دولار ديون مملوكة بواسطة الجمهور، و4.509 تريليون دولار ديون مملوكة للحسابات الحكومية، وهو ما يعني أن نحو ثلثي الدين العام الأمريكي مملوك بواسطة الجمهور، والثلث الآخر مملوك بواسطة الحسابات الحكومية، وحتى الآن تبلغ تقديرات الدين العام الأمريكي في عام 2011 نحو 14.5 تريليون دولار. الشكل رقم (1) يشير إلى تطورات الدين العام الأمريكي بأنواعه منذ عام 1940 حتى عام 2010، ومن الشكل يلاحظ أن الدين العام بأشكاله المختلفة قفز إلى مستويات تاريخية في السنوات الأخيرة على النحو الذي سنقوم بتحليله لاحقا. التحليل الدقيق لتطورات الدين العام الأمريكي يوضح لنا أن هناك عاملين أساسيين مسؤولين عن نمو الدين العام الأمريكي على مدى التاريخ، الأول هو تكاليف الحرب، أو ما يطلق عليه نفقات الدفاع، والآخر هو الكساد، أو تراجع مستويات النشاط الاقتصادي، حيث تتراجع الإيرادات العامة بصورة كبيرة، أو قد تضطر الحكومة إلى رفع مستويات الإنفاق اللازم لتحفيز الاقتصاد ودفع تأمين البطالة، ونتيجة ذلك يحدث عجز في الميزانية أو يزداد هذا العجز، وبالتالي يزداد مستوى الدين العام، وعندما نحيد أثر هذين العاملين عبر التاريخ المالي الأمريكي نجد أن الدين العام ينخفض بصورة كبيرة. عندما يجتمع هذان العاملان معا في وقت واحد فإن الأثر على عجز الميزانية الأمريكية يكون كبيرا، وهو ما يدفع بالدين العام الأمريكي إلى مستويات مرتفعة، وعبر تاريخ الولايات المتحدة مر الدين العام الأمريكي بمراحل متعددة ارتفع فيها الدين العام أو انخفض وفقا للتطورات التي تحدث في هذين العاملين على وجه الخصوص. على سبيل المثال، أدت الحرب العالمية الأولى إلى عجز كبير في الميزانية الأمريكية، بمقاييس ذلك الوقت، بلغ 23 مليار دولار خلال العامين الماليين 1917 ـــ 1919. غير أن الرواج الاقتصادي خلال العشرينيات صاحبه تحقيق فوائض في الميزانية، وهو ما قلل من أثر هذا العجز على الدين العام، حتى حدثت كارثة الكساد العالمي الكبير، والذي ما أن تعافت الولايات المتحدة منه، حتى بدأت طبول الحرب تدق مرة أخرى، وقامت الحرب العالمية الثانية. تسبب الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية في تحقيق الولايات المتحدة لعجز غير مسبوق، وهو ما أدى إلى رفع مستوى الدين العام من نحو 16 مليار دولار فقط عام 1930 إلى 271 مليارا في عام 1946، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 16 في المائة فقط في عام 1930 إلى نحو 122 في المائة في عام 1946، كما يتضح من الشكل رقم (2) الذي يوضح تطورات نسبة الدين العام الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 1940 حتى عام 2010. يلاحظ أيضا من تحليل البيانات المالية للولايات المتحدة أن نسبة العجز في الميزانية العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي تتبع أيضا هذين العاملين بشكل أساسي، على سبيل المثال شهدت فترات الحرب الكورية، وحرب فيتنام، وكذلك كساد عامي 1975 ــ 1976، ارتفاع نسبة العجز في الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما سنوضح ذلك لاحقا. غير أن نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي كانت أعلى من نسبة النمو في الدين العام، ولذلك تراجعت نسبة الدين العام إلى الناتج بصورة كبيرة حتى بلغت أدنى مستوياتها عبر التاريخ الأمريكي الحديث، وذلك في عام 1974، حيث بلغت 33.6 في المائة. في عام 1982 قامت الولايات المتحدة بتخفيض الضرائب بصورة كبيرة ودائمة، وهو ما أدى إلى تراجع الإيرادات العامة للدولة، في الوقت الذي صاحبه فيه زيادة كبيرة في الإنفاق على الدفاع، وهو ما أدى إلى تزايد عجز الميزانية خلال العقد التالي إلى نحو 200 مليار دولار سنويا، ما جعل الدين العام الأمريكي من الناحية المطلقة يأخذ منحى مختلف عما سبق، حيث تجاوز الدين العام الأمريكي حاجز التريليون دولار لأول مرة في عام 1981، وفي عام 1992 بلغ إجمالي الدين العام أربعة تريليونات دولار تقريبا، ونتيجة لذلك ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 64 في المائة. منذ عام 1992 شهدت المالية العامة للولايات المتحدة تطورات إيجابية مهمة، حيث أخذ العجز في الميزانية الأمريكية بالتراجع لدرجة أنه في عام 1998 سجلت الميزانية أول فائض لها منذ عام 1970 تقريبا، والذي استمر حتى عام 2001، وفي عام 2001 تراجعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 56.4 في المائة. في عام 2001 تدهورت أوضاع الاقتصاد الأمريكي والتي تزامنت مع هجمات 11 من أيلول (سبتمبر). في هذا العام حدث تطوران في غاية الأهمية، الأول هو إقرار تخفيضات ضريبية لتمكين قطاع الأعمال الخاص الأمريكي من تجاوز آثار الأزمة، والثاني هو بدء الحملة الأمريكية غير محسوبة النتائج على ما يسمى بالإرهاب العالمي، ودق العبقري جورج بوش الأصغر طبول الحرب استعدادا لغزو دولتين إسلاميتين هما أفغانستان والعراق، فكانت النتيجة أن عادت الميزانية الأمريكية لتحقق عجزا مرة أخرى في عام 2002 بلغ 158 مليار دولار. في نهاية عام 2007 غرق الاقتصاد الأمريكي في حالة الكساد، واندلعت الأزمة المالية العالمية مع انهيار بنك ليمان براذرز في 2008، ما أدى إلى تعمق مستويات الكساد الذي نجم عن أزمة قطاع الرهن العقاري الأمريكي، واستجابة لذلك تم إقرار تخفيضات ضريبية إضافية، في الوقت الذي تراجعت فيه الإيرادات العامة مع تراجع مستويات النشاط الاقتصادي بسبب الكساد، فضلا عن ذلك أخذ الإنفاق على إعانات البطالة وغيرها من أشكال الإنفاق العام الذي يهدف إلى تخفيف وقع أزمة الاقتصاد الأمريكي في التزايد، في الوقت الذي استمر فيه الإنفاق على الدفاع مرتفعا، ما أدى إلى عودة العجز في الميزانية الأمريكية إلى التصاعد على نحو غير مسبوق في التاريخ الأمريكي. إذ بدءا من عام 2009 ومع حزم التحفيز المالي الضخمة أخذ العجز في الميزانية الأمريكية منحى لم يبلغه من قبل، حيث تعدى العجز في عام 2009 حاجز التريليون دولار لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة والذي بلغ 1.413 تريليون دولار، وهو ما يعني أن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي، ولأول مرة أيضا، تصل إلى نحو 10 في المائة. وفي عام 2010 بلغ عجز الميزانية 1.294 تريليون دولار. بجميع المقاييس التي تعرضت لها في تحليل الدين الأمريكي تعد السنوات 2009 ـــ 2011، أخطر السنوات المالية في التاريخ المالي الأمريكي على الإطلاق، ونتيجة لتلك التطورات قفز الدين العام الأمريكي إلى مستويات غاية في الخطورة. ففي عام 2008 بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 70 في المائة، قفزت إلى 93.2 في المائة في عام 2010. هذا العام تشير التقديرات الأولية المتاحة عن الدين العام الأمريكي إلى أنه بلغ 14.5 تريليون دولار تقريبا، أي بنسبة 97 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. بقي أن أشير إلى أن هناك معلومة قد لا يعرفها الكثير من غير المتخصصين، وهي أن جانبا من الزيادة في هذا الدين قد تم استخدامه من أجل تملك الحكومة الأمريكية لأصول مالية خاصة (شراء أصول مالية خاصة) بهدف تخفيف وقع الأزمة المالية على أسواق المال وتحفيز الاقتصاد المحلي، بالطبع مثل هذه الأصول المالية تعد بمثابة تعويض جزئي عن زيادة الدين، ومن الممكن أن ترتفع القيم السوقية لهذه الأصول وهو ما يمكن أن يقلل من أثر زيادة الدين عندما يتم التخلص من هذه الأصول في المستقبل، ووفقا للتقديرات المتاحة، فإنه إذا ما تم خصم هذه الأصول المالية من الدين العام الأمريكي المملوك بواسطة الجمهور تنخفض نسبة هذا الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 47.1 في المائة في عام 2009 وإلى 54.4 في المائة في عام 2010. هذه مقدمة أساسية عن الدين العام الأمريكي، ولكن ما تفاصيل العوامل المسؤولة عن هذه التطورات في حجم هذا الدين، في الأسبوع المقبل ـــ بإذن الله تعالى ـــ نخوض بصورة أعمق في تحليل الإنفاق العالم الأمريكي وتطورات الإيرادات العامة وهي، كما سبقت الإشارة، العوامل المسؤولة عن زيادة الدين العام إلى هذه المستويات الفلكية.
إنشرها