«فهمتكم» .. بين ديجول وبن علي

في الرابع من حزيران (يونيو) 1958 قَدِم شارل ديجول إلى الجزائر التي تقبع تحت الاحتلال الفرنسي آنذاك وألقى من شرفة مقر الحكومة الفرنسية الموجودة في الجزائر خطابا أمام ما يقارب 150 ألفا من الفرنسيين المستعمِرين وقليل من أصحاب الأرض من الجزائريين.
جاء خطاب شارل ديجول بعد بداية الثورة عندما أحس المحتلون بالخطر واقتراب أجل الوجود واندحار وتلاشي ''الجزائر فرنسية'' التي شكلت رغبة وهوس المحتلين. وأعلن ديجول في خطابه هذا مجموعة من الإصلاحات والحقوق للشعب الجزائري التي كانت فقط محصورة على المستوطنين الذين كانوا يمارسون أشد وأقسى درجات التفرقة والاضطهاد ضد الشعب الجزائري العظيم.
لن أتوقف طويلا عند السياق التاريخي ومحتوى خطاب ديجول، لكن من المهم الإشارة إلى أن ديجول بدأ خطابه هذا بكلمة ''فهمتكم'' اتبعها بلحظات صمت معبرة قبل أن يستأنف خطابه .. ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن هذا الخطاب وكلمة ''فهمتكم'' على وجه الخصوص شكلت علامة فارقة في تاريخ الخطاب السياسي الفرنسي، حيث صنف المحللون السياسيون وعلماء اللغة وتحليل الخطاب هذه الخطبة التي أُطلق عليها اسم خطبة ''فهمتكم'' من ضمن الخطابات الأكثر غموضا وتعقيدا في تاريخ الخطابات السياسية وفتحت الباب أمام كم هائل من القراءات والتأويلات والتأويلات المفرطة. لقد كان الخطاب غامضا مشفرا بالنسبة للجميع باستثناء ديجول نفسه الذي كان يعي ويقصد كل كلمة بما فيها حالة الغموض التي أراد قصدا أن تسكن الخطاب كون السياق وظروف المرحلة لا يحتملان الشفافية .. والمفارقة أن التاريخ والأرشيف ما زالا يطرحان المزيد من الفرضيات حول الدوافع الحقيقية وراء خطاب ديجول، التي من ضمنها ما تردد أنه قبل إلقاء الخطاب الشهير أسرّ إلى أحد أصدقائه الحميمين خشيته من أنه في حال اضطرت فرنسا إلى منح الجنسية لعشرة ملايين جزائري أن تتحول قريته التي تسمى ''كولمبي الكنيستين'' إلى ''كولمبي المسجدين''.
هذا كان شارل ديجول في عام 1958 وفي ظروف تاريخية محددة وصعبة بالنسبة للشعب الجزائري الشقيق. وفي 2011 استخدم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الكلمة نفسها ''فهمتكم'' في ظروف صعبة أيضا وقاسية بالنسبة للشعب التونسي مع الاختلاف الكلي في السياق وطبيعة ومستوى المعاناة.
الأسئلة الكبرى والكارثية التي تفرض نفسها هي: ما الذي حدا بابن علي أن يقتبس ويلجأ إلى هذه الكلمة التي تكاد تنفجر بما تحمله من دلالات ومعان وآلام تحيل بالذاكرة مباشرة إلى زمن الاحتلال والظلم والتفرقة والاضطهاد؟ وكيف كان يرى بن علي طبيعة العلاقة التي تربطه بالشعب التونسي؟ وهل فات بن علي أن الشعب التونسي سيستحضر ''فهمتكم'' الديجولية ويزداد توجسا وخيفة وإصرارا؟
في كل الأحوال ومن دون الحاجة إلى تأويل مفرط نستطيع أن نقرأ أن لجوء بن علي إلى ''فهمتكم'' التاريخية مؤشر على تجذر المرجعية الغربية في ذهنيته وذهنية مستشاريه، وأن استحضاره لها يعبر عن أنه لم يفهم يوما الشعب ولا السياق ولا الثقافة ولا الجيل.. ولم يع أننا في عالم تمرُد المعلومة على كل القيود وعوالم التواصل الاجتماعي .. لقد تمسك بن علي إلى آخر لحظة في حياته السياسية بالنموذج الغربي ورفاقه من الغرب.. وفي النهاية استصرخهم وهو بين السماء والأرض ولم يستصرخوه!
وبالنسبة لنا، ففي ظل ضياع المعنى فلا بد من الاسترسال بالأسئلة الكبرى ومحاولة الإجابة عنها وتفكيكها والاستفادة منها للمستقبل.
نعوذ بالله ألا نكون ''نحن''...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي