عن الحكايات العابرة للجدران

يقول القرّاء إنك قد تحبّ قراءة كتب أورهان باموق، أو قد تكرهها في المجمل، وأقول برأي شخصيّ إنني لم أستطع إكمال رواية من رواياته على الرغم من أنني خضت تجربة البدء في قراءتها في أوقات مختلفة، لكنني لم أفقد الأمل! فقد يخرج الحائز على جائزة نوبل في الآداب بتحفة فنية، واستمر البحث حتى اكتشفت أن المشكلة لدي كانت في الروايات التي كتبها ولم ترتبط بكتبه التي تندرج تحت السيرة الشخصية أو شبه السيرة الشخصية.
فكتابه "ألوان أخرى" - مثلا - من أكثر الكتب التي مررت بها متعة وتنوعا، بل يمكنني اعتباره أحد الكتب المراجع التي تعود إليها، وتنظر في اختياراته وحديثه عن الحياة ككل.
وأخيرا، وقع الاختيار على كتاب آخر له غير روائي، كتاب "إسطنبول المدينة والذكريات" هذا الكتاب المتوسط في الحجم والضخم في التفاصيل جدّد اعترافي بروعة الكاتب.
إنه حديث مزيج من طبقات، في طبقة هي المدينة التي يتضح لنا من القراءة أنها تجسدت فأصبحت كائنا مستقلا له صفاته، وطباعه، وتفاصيله التي لا يعرفها إلا المقربون منه. وفي الطبقة الأخرى نظرته هو، فالمدينة تسكنه بقدر ما يسكنها، يصفها يتذكرها كما في سنوات عمره الأولى، المدينة الملونة وعاصمة العالم في فترة انتقالية وتاريخية صعبة. ومن طبقة أخرى يروي الكاتب التفاصيل بمسحة الكآبة والحزن "Melancholy" حزن المدينة والأشخاص، حزن لا ندركه بوضوح، لكنه هناك فيما يرويه: إنه حزن التراث المنهار وانزلاق تركيا إلى التغريب يحيط بالسكان وينعكس على أيامهم.
الجميل في الكتاب قدرة باموق في حمل مرآة مكبرة ووضعها أمامه، يتحدث بلسان الطفل الصغير وأفكاره، يتساءل عن هويته ومخاوفه وأحلامه، وتفاصيل يومه كيف يقضيها في مجمع أسرته السكني. يصف أدق الأشياء وينقلها إلينا وكأنه يمسك بأيدينا ويعرفنا على تاريخه.
والحديث عن التاريخ يأخذنا لنقطة مهمة، الكتاب لا يعتبر مرجعا تاريخيا بحتا، هذا سيجعله ممل لبعض القرّاء.
باموق يروي الفترة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وبداية السبعينيات من القرن الماضي، يدمج الحقائق بالصور التي يحتفظ بها من ذاكرته ومن عائلته حول المدينة التي تعد المسرح الذي انطلقت منه شخصياته الروائية.
وكأنه يقول هنا بدأ كلّ ذلك، ويروي عطش فضول متابعيه عن التفاصيل التي مزجها بالخيال وصنع منها كتبا.
كتاب "إسطنبول" يستمد غناه وكثافته من المدينة العريقة نفسها، فيها التقت الحضارات والديانات والأعراق، وشهدت عيشا متناغما على مدى فترات تاريخية طويلة. يشيد بعض النقاد به بوصفه "Travelogue"، وهي كلمة إنجليزية تستخدم لوصف الأدلة السياحية والمحاضرات المصورة والوثائقيات المفصلة عن مناطق من العالم تهدف لجذب الزوار بطريقة غير تجارية ومحببة.
وفي هذه النقطة اتفق معهم واختلف في نفس الوقت، فالكتاب مليء بالصور العالية الجودة وإن كانت ثنائية اللون! وتفاصيل الأماكن والمناطق وكأنك تراها، ولكن ألسنا نتحدث عن منطقة قبل عقود؟
السياحة التي يتحدث عنها الكتاب سياحة في ذاكرة إنسان بمعزل عن وضعه الحالي وما نعرفه عنه، وكما يقول باموق نفسه "الناس تحتاج الكتب للمتعة ولبثّ الأمل والدفع للتغيير".
وهذا الكتاب سيغير بكم شيئا وإن كان صغيرا لا يُذكر لكنكم ستقرأونه وتخرجون باستنتاجات جاءت من إسقاطه الضوء على مشاعر وأفكار راودتكم يوما. سننظر من بعد هذه القراءة من جديد باتجاه مدننا، - فيزيائيا ومعنويا - بزيارة ذكرياتنا والصور المعلقة على الحائط وفي بيوت أسرنا الممتدة.
كان أورهان باموق يشتكي في صغره من عدم قدرته الرؤية خلف الجدران، إذا نظر من نافذة منزلهم كانت المباني بينه وبين الشارع، إذا سار في الشارع كانت الأقدام الطويلة تقف بينه وبين الصور.
كتاب إسطنبول حقق لباموق حلمه الذي كان ينشده، حكايته عبرت الجدران، والقارات وترجمت للعديد من اللغات!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي