الخطاب الثقافي المشترك: مرحلة ما بعد اللوفر

توجد قناعة متجذرة لدى كثيرين بأن درجة تحضر الأمم تقاس بمقدار احترامها لثقافتها. والمملكة العربية السعودية التي تكرس في الفترة الحالية اهتماماً خاصاً وملموساً بالثقافة تسير في هذا الاتجاه، إضافة إلى كونها تعيش حالة حراك كبير على أهم المستويات: في التعليم العالي، والاقتصاد، والسياسة، وبالتأكيد بدرجات متفاوتة في الانطلاقة والإنجاز.
لقد جاء قرار المملكة بالكشف عن موروثها الإنساني من خلال عرض أكثر من 300 قطعة أثرية موغلة في القدم في مدن عريقة ومهمة حول العالم، آخرها مدينة سانت بطرسبورج وأولها في متحف اللوفر في باريس، كإحدى أهم الخطوات على طريق تشييد القيم المشتركة بين الثقافات والحضارات التي تسعى لها المملكة العربية السعودية ويتبنى خيارها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ــ حفظه الله.
فقد شَكَلّ المعرض الذي نظمته الهيئة العليا للسياحة والآثار بالتنسيق مع المتحف الوطني ومتحف كلية السياحة والآثار في جامعة الملك سعود وعدد من متاحف المملكة في متحف اللوفر تحت مسمى ''روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور''، شَكَلّ خطاباً مغايرا تلقته باريس هذه المرة بطريقة مغايرة. والحدث بما يحمله من محتوى عميق أثار ذائقة المتلقي الفرنسي الذي بحكم تكوينه الثقافي والحضاري لديه القابلية للتأثر والاستجابة لهذا النوع من الطرح والتواصل، وعبَّرَ كتابياً وشفوياً عن احترامه وتقديره لهذا التوجه الجديد للمملكة ووعيها بإضافة هذا البعد الحضاري والإنساني إلى جهودها.
ونعلم أن معظم الدول وعلى رأسها الدول الغربية تتغذى في تعاطيها مع المملكة من صور نمطية أقل ما يقال عنها إنها غير إيجابية؛ مختزلة في النفط والبذخ وحديثا في التطرف. ومعروفٌ أيضاً أن زعزعة الصورة النمطية وجذبها نحو الأفق الإيجابي بعيداً عن التعميم والاختزال تحتاج إلى حدث قوي ومؤثر وعميق كحدث اللوفر، متجاوزين بذلك تلك الممارسات الثقافية التي شكلت في فتراتٍ مضت وانقضت نوعاً من مخاطبة الذات والبقاء في فضاء الظاهرة الصوتية، بالرغم من التنقل والتجوال.
خطاب الثقافة الذي يعتبر الإرث الإنساني أحد أهم جوانبه يحتاج كي يصبح خطاباً مؤثراً،إلى أن توليه الدولة والقطاع الخاص مزيداً من العنايةِ مع الأخذ في الحسبان ما تحيط به من اعتباراتٍ اقتصادية ودينية ومجتمعية. وبما أن المملكة، كما شهد بذلك كثير من العلماء والمتخصصين، هي متحفٌ مفتوح وبِكر؛ فإنه ينبغي التوجه إلى جعل السياحة والآثار كخيار استراتيجي تذلل كل العقبات التي تواجهه لكي يشكل، ولو ببطء، المصدر الثاني بعد النفط، تمهيداً لـ ''حياة ما بعد البترول''، وهذا أقل الحقوق علينا للأجيال القادمة. ومن أهم الخطوات في السير نحو المصدر الثاني بقوة أن تتبنى الدولة حواراً هادئا مع علمائنا الذين يبدون تحفظاً على هذا التوجه وحثهم على تغليب قاعدة المصالح والانطلاق معهم من مبدأ أن الهدف هو مستقبل الأجيال ومكانة الوطن.
وبالنسبة لمعرض روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور من الأهمية بمكان أن تستمر هذه القطع الفنية أو النصوص المفتوحة في التجوال، وأن تمثلنا بالوكالة، وأن يتم إخضاع التجربة للتقويم المستمر وتطويرها من خلال التواصل مع شرائح المجتمع المضيف والحديث معهم؛ عن كيف عاشوا وتلقوا هذا الإرث الإنساني؟ وأنا على يقين أننا سوف نلتقي كثيرين من مثل تلك السيدة الفرنسية التي أتت مع زوجها وصديقتها وصرحت بعد زيارتها للمعرض لجريدة ''الباريزيان'' الفرنسية الشهيرة بأننا ''أمام ولادة فن جديد واكتشاف مطلق''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي