Author

تعميق مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي

|
إن دول المنطقة كغيرها من دول العالم مطلوب منها اليوم انتهاج سياسة تساعد على قيام علاقة جديدة بين الدولة والاقتصاد، وبين قطاع الأعمال والمجتمع تتجاوز المألوف. فالتنمية الاقتصادية المستدامة يصعب لها أن تتحقق بمعزل عن التنمية السياسية وتوفير الأمن الاجتماعي للمواطن. فلا بد إذاً من تأسيس لاستقرار سياسي عبر توفير آليات ديمقراطية لحل النزاعات وبلورة الخيارات الوطنية والمشاركة الفعالة للمواطن في أخذ القرار. وبطبيعة الحال، فإن دول المنطقة ستكون أكثر جاذبية للأعمال والاستثمار، ومهيأة أكثر لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود إذا ما توفر الاستقرار الحقيقي الذي لا يعتمد على أجهزة الأمن بقدر ما يقوم على حكم القانون، واحترام الحريات السياسية، وحرية الرأي، ومحاربة الفساد، وحماية الاستثمارات، ووضع شبكات أمان اقتصادية واجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية كان لها سجل جيد بالنسبة لمعدلات النمو السنوي في الاقتصاد الكلي، إذ بلغت هذه المعدلات منذ عام 1999 نحو 5.1 في المتوسط لبلد مثل مصر ونحو 4.6 في المائة لتونس. غير أن فوائد النمو فشلت في الانسياب إلى أسفل لتطول شرائح المجتمع كافة خاصة الفقيرة والمتوسطة، ولم يشعر المواطنون بأي تحسن في أوضاعهم المعيشية. فالنمو الاقتصادي الكلي هذا ترافق مع تركز الثروات بين أيدي طبقة محدودة من المواطنين، وارتفعت في المقابل معدلات البطالة بين الشباب وتفاقم الفساد. أضف إلى ذلك أن معظم النمو جاء في قطاعات العقارات والتمويل والاتصالات والأسهم، بينما لم يتحقق الكثير من النمو في قطاعات الإنتاج الرئيسة الأخرى مثل الصناعة، والزراعة، والتعليم، والطب، والشركات الصغيرة والمتوسطة، والأعمال الخلاقة. من هنا جاءت ضرورة قيام نموذج اقتصادي جديد يجمع بين فعالية اقتصاد السوق وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، والذي أخذ يُعرف بمفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث هناك مساهمة فاعلة لكل شرائح المجتمع في العملية التنموية، وحيث للدولة دور أكبر تلعبه على المستوى الكلي level Macro وتحول هيكلي في النظرية الاقتصادية على مستوى قطاع الأعمال level Micro. فعلى المستوى الكلي، المطلوب من الحكومات أن تلعب دورا أكبر في الدورة الاقتصادية كمراقب ومنظم وراع لمفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، ولا أحد يطلب من الدولة أن تحل محل القطاع الخاص في إدارة هذه الشركات، وليس هناك عودة إلى السبعينيات حيث كانت الدولة تنشط كمالك ومشغل للشركات، وكتاجر يستورد ويبيع ويدعم الأسعار لأن ذلك سيحد من روح المبادرة، ويؤثر سلباً في الإنتاجية، ويؤدي إلى تقليص التنافسية، وزيادة الهدر والتوظيف العشوائي، ويرفع من العبء على الخزانة. المطلوب من الحكومات وضع نظم رقابية أفضل وأكثر فعالية، وإدخال قواعد المحاسبة والمساءلة، ومنع حدوث مخاطر نظامية risk Systemic. أما على مستوى قطاع الأعمال، فلقد أدرك عديد من الشركات أنه من الأجدى لها التركيز على تحقيق النمو المستدام growth sustainable وهذا لن يأتي إلا عن طريق تعظيم القيم والمنفعة المشتركة بين قطاع الأعمال والمجتمع value shared of Principle بدلاً من التركيز فقط على مبدأ تعظيم العائد على رأس المال. صحيح أن زيادة ربحية الشركات سيعود بالفائدة على المساهمين وأصحاب رأس المال، لكنه لن يكون مستداماً على المدى المتوسط والبعيد، وسيؤدي إلى أزمات وإلى ارتفاع معدلات البطالة وتعمق الفقر ما لم تعمل الشركات على الربط بين نجاح أعمالها وتقدم المجتمع الذي تتواجد فيه، حيث إن احتياجات المجتمع في كل شرائح الدخل، وليس فقط احتياجات الشركات، هي التي ستحدد المسار المستقبلي للعرض والطلب في الأسواق. التركيز على الربحية قد أدى بقطاع الأعمال في دول الخليج إلى تكثيف استخدام اليد العاملة الوافدة المدربة والرخيصة نسبياً بهدف زيادة الإنتاجية وتعظيم العائد على رأس المال. ولكن هذا النموذج أدى إلى وجود مشكلات اجتماعية أهمها ارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين، وظهور نظرة سلبية تجاه رجال الأعمال الذين أصبحوا شبه معزولين عن المجتمعات التي يعملون بها. ولقد أظهرت الاضطرابات التي تعرضت لها بعض الدول المنطقة كيف أن الإنتاجية والربحية ضرورية ولكنها ليست كافية لتحقيق النمو المستدام والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فلا بد إذاً للقطاع الخاص من التركيز على زيادة استخدام اليد العاملة المحلية وتدريبها، وتوفير التأمين الصحي والاجتماعي لها لكي تشعر بالاستقرار والأمان، وترتفع إنتاجيتها، وهذا سيؤدي إلى تعظيم المنفعة المشتركة للشركة والمجتمع الحاضن لها. إن تعظيم المنفعة المشتركة للمجتمع والشركات ليس عملاً خيرياً تقوم به المؤسسات، كما أنه ليس طريقة مبتكرة لإعادة توزيع الدخل على الشرائح الفقيرة من المجتمع، بل هو أسلوب تفكير وعمل جديدين يهدف إلى زيادة مشاركة المجتمع لتحقيق عوائد أعلى على الاستثمار، وليساعد الشركات على البقاء وعلى تحقيق النمو المستدام. المنفعة المشتركة يجب ألا تكون على هامش ما تقوم به الشركات، فهي ليست استقطاع جزء صغير من الربح لصرفه على برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات responsibility social Corporate، بل هو في صلب عمل الشركات وهدف رئيسي تسعى لتحقيقه ليحل محل هدف تعظيم الربحية والعائد على رأس المال. إذاً اقتصاد السوق الاجتماعي يهدف إلى إعطاء الحكومة دورا أكبر لتحقيق العدالة الاجتماعية بوسائل لا تخرج عن سياق اقتصاد السوق. وعلينا أن نفهم أن ما هو جيد للمجتمع هو جيد للأعمال، فلن يكون هناك نمو مستدام لمؤسسات القطاع الخاص إلا إذا شعرت المجتمعات الحاضنة لهذه المؤسسات بكل شرائحها أنها جزء فعال في الدورة الاقتصادية وهناك منفعة مشتركة للمجتمع والشركات على حد سواء.
إنشرها