Author

هل انهيار اليورو أمر حتمي؟!

|
تتابعت الصعوبات التي تواجهها منطقة اليورو بسبب المديونية السيادية والحاجة إلى دعم النظام البنكي في عدد من الدول التي تعاني اقتصاداتها ضعفا شديدا من بينها اليونان وإيرلندا اللتان تم إقرار خطط إنقاذ لهما تكلفت مئات مليارات اليورو، ودول أخرى ينظر تعرضها لأزمات مماثلة أبرزها البرتغال وإسبانيا وإيطاليا، التي قد تحتاج إلى خطط إنقاذ ستكون تكلفتها حتى أكبر وأضخم. وحتى نضع تصوراً حول إمكانية انهيار اليورو من عدمه فإننا في حاجة أولا إلى تحديد أهم عوامل الضعف التي تعانيها العملة الأوروبية الموحدة لنقارنها بنقط القوة التي يمكن أن تسهم في حمايتها من الانهيار والإبقاء على تماسك منطقة اليورو. وهناك خمسة عوامل رئيسة تتسبب في ضعف اليورو. أولها: أن الدول التي تعاني اقتصاداتها أداء ضعيفا قد تسببت عضويتها في منطقة اليورو في حرمانها من استخدام سياسات أسعار الصرف لدعم اقتصاداتها، فلو بقيت هذه الدول محتفظة بعملاتها الوطنية لنتج عما تعانيه حالياً من صعوبات مالية انخفاض حاد في قيمة عملاتها يجعل صادراتها أكثر تنافسية ما يساعدها على الخروج من أزمتها بسرعة وسهولة أكبر، كما أن انخفاض عملاتها الوطنية كان سيقلل كثيراً من القيمة الحقيقية لإنفاقها الحكومي ودينها العام، ما يجعلها قادرة على تحقيق توازن في موازين مدفوعاتها الداخلية بأقل ضرر ممكن على اقتصاداتها، وكل ذلك متعذر حاليا بسبب عضويتها في منطقة اليورو. الثاني: أن الأحداث التي شهدتها منطقة اليورو أظهرت أن مرحلة الوحدة النقدية ضمن عملية التكامل الاقتصادي بين مجموعة من الدول مرحلة تتصف بعدم الاستقرار، فالدول الضعيفة ضمن منطقة العملة الموحدة يتسبب ما تعانيه اقتصاداتها من صعوبات أو ما ترتكبه من أخطاء في إدارة اقتصاداتها في ضغوط كبيرة على العملة الموحدة تضطر معه الدول الغنية للتدخل بقوة لدعم الاقتصادات الضعيفة، ما يمثل عبئا ماليا هائلا على اقتصاداتها، وقد لا تجد تلك الحكومات دعماً شعبياً كافيا لمثل هذه السياسات مستقبلا، خاصة إذا استمرت المشكلات تنتقل من دولة إلى أخرى، حيث قد تصل الدول الغنية إلى قناعة بأنها تتحمل أعباء قد لا تكون مستعدة أو قادرة على تحملها فتنهار العملة الموحدة. الثالث: أن المعايير التي وضعت لضمان استقرار العملة الموحدة الأوروبية كنسب عجز الميزانية ومعدلات التضخم ونحوها من معايير اتضح الآن أنها ليست كافية لضمان عدم حدوث تجاوزات في المالية العامة وبكل تأكيد لا تضمن عدم حدوث تجاوزات في النظام البنكي في دول الاتحاد النقدي، ما يجعل العملة الموحدة مهددة بشكل كبير ما لم تتدخل الدول القوية بتحملها نتائج أخطاء السياسات المتخذة في الدول التي تعاني اقتصاداتها، أي أن هناك مخاطر أخلاقية moral hazard مرتبطة بقيام العملة الموحدة، والذي يقصد بها أن يتصرف من لا يتحمل نتائج أخطائه بصورة غير مسؤولة وبطريقة تختلف عن الطريقة التي سيتصرف بها لو كان هو وحده المتحمل لنتائج أخطائه. الرابع: أن الاشتراطات التي وضعت على الدول التي أقر خطط إنقاذ لها، التي من بينها اتخاذ إجراءات تقشفية صارمة بهدف تخفيض عجز ميزانياتها ودينها العام سيعني انكماش اقتصاداتها بصورة تقلل من حجم الإيرادات الحكومية، ما يجعلها مضطرة إلى اتخاذ إجراءات حتى أكثر حدة للحد من عجز ميزانياتها، ما يدخلها في دوامة من التراجعات في أداء اقتصاداتها تجعل من الصعب على هذه الاقتصادات الخروج من أزمتها لفترة طويلة. الخامس: أن مكاسب الدول الأعضاء من العملة الموحدة لم تكن متوازنة، فالدول التي كان أداء اقتصادها القوي سيتسبب في رفع كبير في قيمة عملاتها الوطنية، ما يؤثر سلباً في تنافسية صادراتها كألمانيا وهولندا مثلاً، وجدت أن انضمامها لمنطقة اليورو ضمن لها عدم حدوث ذلك، بينما الدول التي كانت اقتصاداتها في حاجة إلى عملة أضعف حتى تزيد من تنافسيتها، فإن انضمامها لليورو منع حدوث ذلك فارتفعت تكلفة الإنتاج فيها بصورة جعلتها تخسر جزءا كبيرا من أسواقها الخارجية، كما هو الحال في اليونان وإيطاليا. في المقابل، فإن هناك عوامل تعمل لصالح استمرار عملة اليورو رغم ما تعانيه من صعوبات. أولها: أن الصعوبات التي واجهتها الدول الأضعف في منطقة اليورو أسهمت في تراجع قيمة اليورو، ما سمح لصادرات البلدان الأقوى في منطقة اليورو أن تصبح أكثر تنافسية، ولو كانت هذه الدول محتفظة بعملاتها الوطنية لشهدت ارتفاعاً كبيراً في قيمتها أمام الدولار في ظل ما يعنيه الدولار والاقتصاد الأمريكي من صعوبات، ما يجعلها أكثر استعداداً الآن للدفاع عن اليورو وحرصاً على بقائه. الثاني: أن مديونيات الدول الأضعف التي تدخلت الدول الأقوى في منطقة اليورو لمساعدتها على مواجهتها هي في معظمها ديون مستحقة لبنوك الدول الأقوى، ما يجعل هذا التدخل ورغم تكاليفه الباهظة يمثل في واقع الأمر دعماً لاقتصاداتها الوطنية وحماية لنظامها البنكي قبل كونه تبرعا سخيا منها يهدف إلى مساعدة الدول الأضعف. الثالث: أن كون معظم مديونية الدول الأضعف بعملة اليورو يعني أنها في حال انسحابها من العملة الموحدة وعودتها إلى عملاتها الوطنية السابقة، فإن قيمتها ستتراجع بشكل حاد أمام اليورو، ما يرفع من مديونيتها بشكل هائل ستضطر معه إلى إعلان إفلاسها وعجزها عن سداد دينها، كما سيتعرض نظامها البنكي لضغط شديد مع سحب المودعين لأموالهم لإيداعها في دول أخرى محتفظة بعضويتها في منطقة اليورو. الرابع: أنه لا يوجد أي آلية تسمح بالخروج من منطقة اليورو والوسيلة الوحيدة لأي دولة ترغب في ذلك هو أن تعلن انسحابها من الاتحاد الأوروبي نفسه، ومن المؤكد أن الدول التي تعاني تبعات عضويها في منطقة اليورو لا ترغب على الأرجح في فقد عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ما سيجبرها على تحمل تبعات عضويتها في منطقة اليورو إلى أقصى حد تستطيعه. ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لمستقبل اليورو؟. من الواضح أن عوامل ضعف اليورو هي عوامل ضعف حقيقية تجعل من الصعوبة بمكان استمرار العملة الأوروبية على المدى الطويل، بينما نقاط القوة لا تعدو كونها تكاليف باهظة ستتحملها الدول التي تقرر الانسحاب من اليورو، ما يجعلنا نتوقع أنها ستردعها عن اتخاذ خطوة من هذا النوع، حتى إن وصلت على قناعة بأنها متضررة من هذه العضوية بشكل كبير. لذا، فإن استمرار تعرض منطقة اليورو لأزمات مالية سيؤدي إلى وصول الدول الأعضاء إلى قناعة باستحالة استمرارها في تحمل تلك التبعات، ما قد يتسبب على الأرجح في تفكك منطقة اليورو، أو حتى حدوث انهيار كامل للعملة الأوروبية الموحدة، وسيعتمد حجم الضرر الذي سيلحق بالدول الأعضاء جراء ذلك على من ستكون الدول التي ستعلن تخليها عن اليورو أولا، فإن كان أول المنسحبين الدول الأضعف مثل اليونان وإيرلندا، فإن اقتصادات هذه البلدان ستعاني صعوبات كبيرة، وستدفع ثمناً باهظاً نتيجة الانهيار المتوقع لعملاتها الوطنية أمام اليورو، أما إن كان أول المنسحبين دولة قوية مثل ألمانيا مثلاً، والذي يمكن أن نتوقع حدوثه بسبب ضغط شعبي رافض لاستمرار تحملها للأعباء المالية المترتبة على خطط الإنقاذ المتتابعة لحماية الاقتصادات الضعيفة، فإن ذلك سيكون حلاً يقلل كثيراً من الضرر على الاقتصادات الأضعف في منطقة اليورو، كونه سيترتب عليه انخفاض حاد في قيمة اليورو، تتراجع معه مديونيتها، كما سيقلل من إمكانية حدوث تراجع حاد في قيمة عملاتها الوطنية أمام اليورو إن هي قررت الانسحاب لاحقا هي أيضا، من ثم فإن كان تفكك اليورو لا محالة قادما، فإن الأفضل أن تبدأ عملية التفكك بانسحاب ألمانيا وهولندا لا اليونان وإيرلندا.
إنشرها