هم .. وهم

لا تستوي نفس تقطع نفسها على كل معروف تليد وطارف
وأخرى استقلت في الحياة بنفسها على حظها مثل النسور العواكف

هكذا صدح الشاعر المبدع الدكتور سعد عطية الغامدي في رثائيته النابضة بالإحساس لمعالي الدكتور محمد عبده يماني ـ رحمه الله.
وما أصدق ما قال. شتان بين من يعيش لغيره وبين من يعيش لنفسه فقط.
نحن أمام نموذجين متباينين أشد التباين: شخص (يقطع نفسه) في الخير وخدمة الناس. له في كل ميدان سبق، وفي كل سباق فرس. لا يترك شيئا يرى فيه خدمة للآخرين إلا طار إليه، يبحث عن فرص مساعدة الناس في كل مكان، إذا دله أحد على باب خير فكأنما أسدى إليه معروفا وتفضل عليه بهذه الدلالة. وهو في هذا التصوير المعبر لا يهمه إذا كان المعروف الذي يسعى إليه (تليدا) أو (طارفا)، ولا يعينه أن يقدمه لشخص لا يعرفه وليس من أدنى مسؤولياته أن يقدم له أي مساعدة أو خدمة. هو لا يقدمها له فقط، هو يقدمها ابتغاء وجه الله (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)، هو يقدمها حبا في الخير، هو يقدمها لنفسه التي بين جنبيه لأن أول من يذوق حلاوة العطاء، هو المعطي نفسه.
وبالمقابل، نحن أمام شخص (استقل في الحياة بنفسه)، والتعبير جميل ومعبر، فكأنما هو قد استقل عن الآخرين بل عن الحياة، فلم يعد يكترث بأحد فضلا عن شيء، هو (عاكف) على حظه (مثل النسور) في أنانية مفرطة وفي حب للذات وللذات فقط. إذا لم يكن له في الأمر مصلحة ظاهرة ومباشرة فإنه يعتبر أي عمل خارج (حظه) من إضاعة الوقت ومن إهدار العمر.
ولكن بين هذين النموذجين أطياف أخرى متعددة تقترب وتبتعد عن الانكفاء على الهم الخاص والتفاني في الهم العام. فليست كل صور التفاني في الهم العام جميلة، هناك صور شوهاء مثل صورة ذلك الشخص الذي يهتم بكل أحد ويظلم نفسه، يراعي كل الناس ويهمل أسرته، يبذل لكل شخص سوى أقرب الناس إليه. وبالمقابل، هناك نموذج الشخص الذي بلغ عنده الاهتمام بمصالحه وهمه الخاص درجة سرطانية، حيث لم يكتف فقط بأن سخر كل وقته وجهده وقدرته على خدمة مصالحه الخاصة فقط وأهمل أي هم عام، بل هو يسخر الآخرين لخدمة مصالحه، ويعتدي على حقوق الآخرين ليعب منها لنفسه، كمن يسطو على المال العام أو يستغل منصبه ونفوذه في زيادة إشباع شرهه وجوعه الذي لا ينتهي. والأطياف الأخرى كثيرة ومتعددة وجميعها تستحق التأمل.
وفي جميع الأحوال لا غنى عن التوازن بين الهم الخاص والهم العام في حياة كل منا. هم لقمة العيش، هم المسكن، هم الصحة، هم الأسرة، هموم مشروعة بل هي واجبة، والتفريط فيها قلة عقل، ولا بد ألا نسمح لأحد أن يلوث هذه المعاني بربطها بالأنانية أو حب الذات أو المصالح الشخصية. وبالمقابل، لا بد أن يكون لدى كل منا هم عام يسعى إليه ويبذل له ويتفانى فيه، خدمة لمجتمعه ولوطنه ولدينه. بل أن يكون له إسهام إن استطاع في خدمة البشرية كلها.
ولكن الأجمل من ذلك كله أن يحاول الإنسان أن يجمع بين الهمين ويدمج بين المشروعين في عمل واحد. أن يحاول أن يركز على الأنشطة والبرامج والأعمال التي تخدمه شخصيا وفيها نفع عام، أن يحاول أن يختار التخصصات التي فيها اهتمام بالناس وخدمتهم. وهذا المعنى العالي مبثوث في ثقافتنا الدينية بشكل كبير، فقد قدم الشرع العبادة متعدية النفع مثل العلم، وخدمة الآخرين، وصلة الرحم، والصدقة، على الأعمال خاصة النفع مثل نوافل الصلاة. وأشار إلى تعدد النيات في العمل الواحد مثل رعاية الأسرة والزواج وغير ذلك وهذا باب كبير يستحق النقاش والتأمل أيضا. وكما أن محاولة إيجاد هذه الأعمال النفيسة التي يجتمع فيها الهم الخاص بالعام مهمة تستحق البحث والتأمل من الشخص نفسه، هي كذلك مهمة القائد والمدير أن يبحث عن الأشخاص المبدعين والفاعلين وإن كانوا أنانيين لا يعملون إلا لمصالحهم ويحاول بحكمته أن يقرب بؤرة نشاطهم من أهداف المؤسسة، بحيث تلتقي مصالح هؤلاء المبدعين الشخصية بمصالح المؤسسة العامة وبهذا تتضافر القوى وتتراكم المكاسب.
بقي أن أقول، أن أسعد السعداء وأكثرهم توفيقا هو الذي يسخر الله له أعمالا وأنشطة يلتقي له فيها الهم الخاص والهم العام مع المتعة والإثارة، يبذل فيها وقته ابتغاء مرضاة الله وطلبا فيما عنده من الأجر. مثل هذه الأعمال والبرامج هي التي تستحق أن تفنى فيها الأعمار. كما قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله: "ألذ شيء، هوى وافق شرعا".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي