أوباما يتراجع ونتنياهو يتقدم والكونجرس يرفع الراية الحمراء

يدل تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، بأن إدارة أوباما لا تستطيع فرض حل على الفلسطينيين والإسرائيليين "وحتى لو استطعنا، فإننا لن نفعل" على الحالة التي وصلت إليها إدارة أوباما من الخنوع لإسرائيل واللوبي الإسرائيلي في واشنطن وإن الدولة الأولى في العالم، الإمبراطورية التي لها أكثر من 700 قاعدة عسكرية موزعة في أركان المعمورة تخشى أن تفرض على إسرائيل القرارات الدولية وتستعمل الترضية الدبلوماسية، بل تدلل إسرائيل لدرجة الاستجداء بوقف مؤقت للاستيطان وترفض إسرائيل، وأخيرا تعلن واشنطن أن الاستيطان ليس شرطا لاستئناف المفاوضات.
يعني هذا أن إدارة أوباما أعلنت فشلها في التعامل مع هذا الصراع الذي يهدد المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط في حالة استمراره، ويعني أن أوباما أعلن استسلامه أمام نفوذ اللوبي الإسرائيلي الذي يتغلغل في أوساط النخبة الحاكمة في واشنطن، ويهيمن بنفوذه على الكونجرس الأمريكي ووسائل الإعلام وبنوك التفكير في الولايات المتحدة، إضافة إلى ذلك ما يتردد بين الحين والآخر عن اكتشاف شخصيات أمريكية في أوساط مختلفة تتجسس في الدوائر الأمريكية لحساب إسرائيل، بل جاء في تقرير للاستخبارات المركزية الأمريكية عام 1979، بأن إسرائيل الدولة الثانية في العالم بعد الاتحاد السوفيتي تتجسس على الولايات المتحدة، واليوم مع غياب الاتحاد السوفيتي أصبحت إسرائيل الدولة الأولى التي تتجسس على الولايات المتحدة الصديقة لها والتي قدمت لها منذ عام 1947، 114 مليار دولار مساعدات، ومئات من المليارات قدمت سرا عدا عن التبرعات من الجماعات اليهودية والمؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة.
ولا يتردد الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس في الاعتراف بأن التجسس الإسرائيلي يخدم إسرائيل؛ لأنها تستطيع إجهاض أي قرار لا يخدمها قبل تنفيذه، وهذا يذكرنا بالاجتماع السري الذي عقده المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة في عهد الرئيس كارتر أندرو يانج، عندما اجتمع في نيويورك بزهدي الطرزي في منزل المندوب الكويتي السفير عبد الله بشارة، وأدى إلى استقالة يايج بعد أن ثبت أن إسرائيل كانت تتجسس على هواتف المندوبين، وقد اعترف الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في حادثة فضيحة مونيكا لوينسكي، بأن دولة أجنبية تتجسس على هاتفه، وتبين أن إسرائيل هي التي تتجسس لإجهاض مبادرات كلنتون لحل الصراع، بل إن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب قد خسر الانتخابات الرئاسية عندما ترشح للمرة الثانية بسبب ضغطه على إسرائيل رغم اعترافه عندئذ بأنه الرئيس الذي خدم إسرائيل أكثر من غيره من رؤساء الولايات المتحدة السابقين، بل اتهمت إسرائيل وزير خارجيته جيمس بيكر بأنه معاد للسامية عندما حاول أن يضغط على إسرائيل.
اللوبي الإسرائيلي يتحكم في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فنلاحظ أن المسؤولين الأمريكيين الذين تولوا ملف الشرق الأوسط، خاصة الملف الفلسطيني الإسرائيلي، من المؤيدين لإسرائيل وخاصة سياسة حزب ليكود؟ من دينس روس إلى مارتن أنديك إلى غيرهما.
ويرجع نفوذ اللوبي إلى أزمة السويس عام 1956 عندما شاركت إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا في العدوان، وقد أجبر الرئيس الأمريكي أيزنهاور رئيس وزراء إسرائيل بن جوريون على الانسحاب من سيناء، وقد اتخذ اللوبي الإسرائيلي عند ذلك ألا تتكرر هذه الحالة مرة أخرى، فسيطر اللوبي على الكونجرس الذي أصبح يحدد سياسة الشرق الأوسط في الولايات المتحدة من خلال نفوذه في وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية والنخب السياسية والاقتصادية، المال والصحافة عماد النفوذ.
ويظهر أن الرئيس أوباما قد فهم الرسالة وتيقن من النفوذ الإسرائيلي وهيمنته على الكونجرس، خاصة بعد نصيحة عدد من رجال الاستخبارات الأمريكية السابقين في واشنطن والدبلوماسيين الخبراء بالملف الإسرائيلي وكانوا ضحايا له، أن يفهم الرئيس قوة النفوذ الصهيوني.
وقد تراجع أوباما عن كل وعوده في تحريك عملية السلام حتى أصبح يستجدي إسرائيل بتجميد مؤقت للاستيطان في المناطق المحتلة، وقدم لإسرائيل الوعود والمساعدات المالية والطائرات الحربية حتى تقبل أن تجمد الاستيطان ثلاثة أشهر فقط؟ قدم رشوة لإسرائيل عدة مليارات وتعهد لها باستعمال حق الفيتو في حالة مناقشة إعلان الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن وقدم لها 20 طائرة حربية متطورة F-35، هذا هو رئيس أكبر دولة في العالم ينحني صاغرا أمام النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة ويتخلى عن وعوده؟ بل إن إسرائيل تسعى لتوريط الولايات المتحدة في حرب مع إيران من أجل تحقيق التفوق الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
ونتذكر فضيحة إيران جيت عام 1986 عندما ورطت إسرائيل إدارة الرئيس ريجان في صفقة الأسلحة الإسرائيلية الأمريكية لإيران في الحرب العراقية - الإيرانية.
ويظهر أن إسرائيل تريد توريط إدارة أوباما في حرب مع إيران، وتثار الشبهات حول تسريبات ويكيليكس في أن الموساد لإسرائيل والولايات المتحدة خلف هذه التسريبات، والمتتبع لكثير من الوثائق المسربة يجد أنها مبتورة الصفحات وغير كاملة وأنها خضعت للحذف وتسريب ما يخدم إسرائيل والولايات المتحدة بطريقة تنم عن خطة مدروسة تهدف إلى التضليل الإعلامي، وشيطنة إيران على أنها تهدد الأمن العالمي وهي دولة من الدول النامية تسعى للحصول على الطاقة للأغراض السلمية كأية دولة تسعى لامتلاك الطاقة السلمية. بل تهدف هذه التسريبات من أجل شرخ العلاقات الإيرانية - العربية والعربية - العربية، ولم نجد وثيقة واحدة تتعرض لإسرائيل بشكل واضح سوى أن نتنياهو يتخذ من تسريبات ويكيليكس ليعلن أن الدول العربية تخشى التهديد الإيراني، وكأن إسرائيل لا تهدد السلام والأمن في الشرق الأوسط، بل يعلن نتنياهو أن تسريبات ويكيليكس تخدم إسرائيل.
وتشن إسرائيل وإدارة أوباما حربا نفسية على إيران وتشكك في علاقاتها العربية والدول الإسلامية ويتم تسريب اختراق أجهزة الحاسوب الإيرانية المتعلقة بالمفاعلات النووية، التي يظهر أنها مفبركة ثم تسرب ويكيليكس عن حصول إيران على صواريخ من كوريا الشمالية، وكل هذه التسريبات والتضليل الإعلامي من أجل تهيئة الرأي العام الأمريكي لشن حرب على إيران تستفيد منها إسرائيل.
وهناك من يشير إلى أن ويكيليكس تخدم النخبة الاقتصادية الأمريكية في وقت حرب العملات وترنح الدولار الأمريكي وتاريخ تجنيد الاستخبارات الأمريكية مشهور في الولايات المتحدة ففي دراسة نشرت في عام 1977 وجد أن 400 صحافي في الولايات المتحدة عملوا تحت غطاء التغطية الإعلامية والعمل الصحافي في خدمة الاستخبارات الأمريكية وليس غريبا أن تتكرر اليوم في وقت تحتاج واشنطن فيه إلى المزيد من المعلومات عن الجماعات المعادية لها تحت شعار محاربة الإرهاب.
ولا يمكن استبعاد دور إسرائيل في تسريبات ويكيليكس حتى تغطي على الاستمرار في عملية الاستيطان وتشكيك الرأي العام في المنطقة في قياداته السياسية، فإسرائيل لا ترغب في إقامة الدولة الفلسطينية، بل تريد كانتونات سياسية في الضفة الغربية على غرار كانتونات السود في جنوب إفريقيا، معازل فلسطينية، بل إن إسرائيل تعمل بكل قوة لإجهاض فكرة الدولة الفلسطينية حتى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي أعلن أنه يريد دولة فلسطينية أعلن في آخر عهده أنه لن يحلم بها في السنوات القريبة، ولم يتردد أوباما أن يتراجع، بل أهانت إسرائيل نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن عند زيارته للقدس.
وليس غريبا أن تعلن هيلاري كلنتون أمام زعيمة حزب ليكود التي كانت في واشنطن أنها لن تضغط على إسرائيل في إيجاد تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل اتخذت تتبنى رؤية إسرائيل في مطالبة الفلسطينيين بالمزيد من التنازلات وهل بقي شيء يمكن أن يتم التنازل عنه ولكن هل تبقى إدارة أوباما رهينة إلى السياسة الإسرائيلية والتخلي عن مصالحها في الشرق الأوسط في الوقت الذي تتصاعد في واشنطن بعض النخب السياسية وإن كانت باستحياء للوقوف في وجه إسرائيل من أجل تحقيق المصالح الأمريكية؟
ويظهر أن إدارة أوباما تريد أن تنقل ملف الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي إلى دول إقليمية والاتحاد الأوروبي ودول أخرى بعيدة نسبيا عن ضغط اللوبي الإسرائيلي، ويمكن تفسير اعتراف الأرجنتين والبرازيل بدولة فلسطينية في حدود 1967، أنه جاء بمباركة أمريكية للتلويح لإسرائيل بأن الرأي العام الدولي يتجه ضد إسرائيل وتصريحات المسؤولين في الاتحاد الأوروبي بالنسبة للاعتراف بالدولة الفلسطينية يهدف للضغط على إسرائيل وتحبذه إدارة أوباما التي تقف مكتوفة الأيدي أمام اللوبي الإسرائيلي، خاصة بعد سيطرة الجمهوريين على الكونجرس بعد الانتخابات التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وأصبح الكونجرس يتحكم في السياسة الخارجية ويرفع الراية الحمراء ضد الضغط على إسرائيل ويردد العودة لسياسة بوش في الحرب على الإرهاب وعدم الانسحاب من أفغانستان.
ويظهر أن إدارة أوباما تسعى لتفعيل الدور التركي في الشرق الأوسط من جديد، وأن الاتصالات الجارية على مستوى الدبلوماسيين في تركيا وإسرائيل وبضغط من واشنطن في إعادة العلاقات التركية - الإسرائيلية كقوى إقليمية في المنطقة ولما لتركيا من رصيد في الشرق الأوسط، فقد تردد أن إسرائيل طرحت لتركيا مليون دولار كتعويض عن الضحايا الأتراك واعتذارا عن حادثة سفينة الحرية، وتريد إدارة أوباما من تركيا لعب دور في الملف الإيراني وأن تشكل توازن قوى في المنطقة بعد الفراغ الاستراتيجي الذي تشهده المنطقة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وأن تعيد الدور التركي في الوساطة بين سورية وإسرائيل؛ لأن إسرائيل تريد تجاوز الملف الفلسطيني والالتفاف عليه بعملية السلام مع سورية، مستذكرة اتفاقية كامب ديفيد مع مصر 1979 وإخراجها من المعادلة العسكرية، وترى حاليا أن المفاوضات مع سورية تضعف الموقف الفلسطيني وتدفعه للمزيد من التنازلات التي لم يبق منها ما يستطيع التنازل عنه، بل تريد طي ملف العودة الفلسطيني نهائيا.
ما نشهده حاليا من إعلان واشنطن عن عدم رغبتها الضغط على إسرائيل ومحاولة إسرائيل إجهاض مساعي المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط جورج ميتشل واستبداله بمارتن أنديل السفير الأمريكي السابق والمعروف بقربه من قيادة ليكود، وهو المؤسس السابق لمركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي يعتبر أحد بنوك التفكير التي تقدم وجهة نظر ليكود في العاصمة الأمريكية، كل ذلك بهدف هندسة الشرق الأوسط بما يخدم الولايات المتحدة وإسرائيل.
وتريد إدارة أوباما أن تتفرغ في العامين القادمين للانتخابات الأمريكية القادمة وتوكيل قوى إقليمية مثل تركيا أن تلعب دورا سياسيا في الشرق الأوسط سواء في إيران أو الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة الملف السوري، والأنسب لهذا الملف هي تركيا الذي تعتبر حليفا لواشنطن وعضو حلف الناتو، وأصبحت وجها مقبولا في المنطقة، بل لها شعبية تجاوزت كل الحدود التي توقعتها واشنطن؟ وأخذت إسرائيل تعمل بكل قوة في السر قبل العلانية بعودة علاقاتها مع تركيا إلى طبيعتها، ويبقى السلام الفلسطيني - الإسرائيلي في الثلاجة حتى وقت آخر، ولكن قد تحرك انتفاضة ثالثة وحل السلطة الفلسطينية التي يهدد به عباس نفسه الملف الفلسطيني.
ويظهر أن الانتفاضة الثالثة أصبحت مطروحة على الساحة الفلسطينية وازدادت صيحات العودة للمقاومة المسلحة، والأشهر القادمة حبلى بالمفاجآت وقد ينقلب السحر على الساحر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي