Author

التقدم التقني.. الفروق الفردية بين التطوير والقياس

|
''أهمية مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب'' من أول المبادئ التربوية التي يتلقاها المعلمون وبطبيعة الحال المعلمات منذ بدايات إعدادهم في الجامعات حتى تخرجهم، ورغم بساطة التصور لمعناها، إلا أن تطبيقها بالشكل الصحيح صعب، بل يكاد يكون مستحيلا في ظل النظم التعليمية الحالية التي لا تتيح المجال كثيرا لتطبيق هذا المبدأ بشكل فعّال. لا يتوقف هذا الأمر على الطلاب العاديين وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة فقط، ولكن التعدد والتباين الكبير في مواهب الطلاب وقدراتهم وميولاتهم هو ما يجعل الموضوع صعبا، فأنى لمعلم يُدرّس أكثر من 30 طالبا في فصل واحد خلال 45 دقيقة أن يرعى ويراعي كل تلك الفروق أو يقيسها ويطورها.. المبدعون وذوو المواهب في الرسم أو النقش أو النجارة أو التصميم أو استخدام الحاسب أو معامل العلوم وغيرهم مع هذه الزحمة في الفصل والزحمة في جدول المعلم هل يمكن أن تجد لهم فرصة لتنمو وتتطور؟!! من المُسلّمات في علم نفس النمو، وهو أحد المناهج التربوية المهمة، أنّ قُدرة الطفل في الحفظ وكذلك في التذكر أكبر، وأن ''العلم في الصغر كالنقش في الحجر''، بينما مع ازدياد العمر تقلّ القدرة على الحفظ وتزداد القدرة على التحليل، وهكذا حتى إذا تجاوز الإنسان عمر 40 تقريبا تضعف كثيرا قدرته على الحفظ وتزداد قدرته على التحليل بوجود الخبرات والكثير من المعارف المتراكمة والمخزنة في ذاكرته، كما أن قدرته على التذكر مع تقدم العمر تقل تدريجيا، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون هناك ثلاثة مسارات للقياس يُعتمد على إحداها بحسب اختيار الطالب للمسار الذي يتماشى مع إمكاناته وقدراته في المراحل الأخيرة من الجامعة في درجة البكالوريوس وكذلك في الدراسات العليا، إما الاختبارات التقليدية المتبعة في جامعاتنا أو الاقتصار على المشاريع البحثية والعملية فقط أو خليط من هذا وذاك كما هو مُتّبع في كثير من الجامعات العالمية المتميزة. أتيحت لي الفرصة عدة مرات لعمل مقابلات مع بعض الخريجين المتقدمين لوظائف في مجال الحاسب الآلي من السعوديين وجنسيات أخرى عربية، وقد لاحظت أن البعض ممن يحمل تقدير مقبول يكون في قمة التميز والإبداع في تخصصه، وفي المقابل البعض يكون لديه تقدير جيد جدا أو أعلى ومستواه ضعيف في التخصص، وعند التدقيق في السجلات الأكاديمية تجد درجات الامتياز في المواد العامة والنظرية لدى الآخر قد رفعت من معدله كثيرا، بينما الآخر لديه درجات متميزة جدا في مواد التخصص، خصوصا العملية، ولكن الدرجات المتدنية جدا للمواد العامة والنظرية قد خفّضت معدله العام، وهنا تبرز أمامه العوائق للحصول على وظيفة أو ترقية أحيانا؛ فأنظمة استقبال طلبات التوظيف الإلكترونية لمعظم الجهات الحكومية على الإنترنت قد أُعدّت لترفض بشكل آلي طلبات من لديه معدل أقل من جيد جدا، بغض النظر عن تفاصيل سجله الأكاديمي! أليس من الأولى التركيز في حساب المعدل العام للطلبة وفي تقييمه للوظيفة أو الترقية على أساس مواد التخصص فقط؟ ومن جهة أخرى أولئك الطلاب الذين يتخرجون ولديهم معدلات ''مقبول'' ثم يعانون الأمرّين للحصول على وظيفة، إلا من لديه واسطة قوية ''فالواسطة لا زالت فوق القانون!!''، عندما نتأمل أسباب هذا الهبوط في المعدل، وإن كان الطالب يتحمل كثيرا من اللوم في هذا الجانب بلا شك، إلا أن أنظمتنا المتبعة في هذا الجانب تتحمل نصيبها من هذا اللوم فيما يلي: أولا: احتساب درجات المواد العامة في المعدل العام، التي ذكرت في مقال سابق في هذه السلسلة بعنوان ''مكمن الخلل عبر مراحل التأهيل العلمي والفني'' أنها قد تصل أحيانا إلى 50 في المائة من المواد المقررة على الطالب كما في الكليات التقنية. ثانيا: حينما يرسب الطالب في مقرر ويُعيد دراسته يُحتسب له في المعدل مرتين، الأولى بصفر والثانية وفقا لدرجته الجديدة فإن كانت ساعات المقرر كثيرة فهذا يعني انخفاض المعدل بشكل أكبر، وهناك بعض الجامعات الرائدة تُلغي درجة الطالب الأولى وتحتسب الثانية فقط في المعدل مع تسجيل عدد مرات دراسة المقرر أو الرسوب فيه، وهذا بطبيعة الحال لا يؤثر على الطالب بل يدعم جوانب الضعف لديه، كما يدعم معدله أيضا، وقد أدرك هذا الضعف في تقييم طلابنا كثير من الجامعات الأمريكية التي تطلب من المتقدمين لديها من خارج أمريكا إعادة تقييم للسجل الأكاديمي Credential Evaluation معتمد من جهات معتمدة في هذا الجانب تقدم هذه الخدمات التعليمية مثل WES وECE وNAEG وغيرها، وستلاحظ في معظم حالات إعادة التقييم لطلابنا ارتفاع المعدل بعد التقييم ليس لاختلاف القيمة الكبرى لأصل المعدل أربعة أو خمسة، لكن بسبب إلغاء الأصفار أحيانا للمواد المكررة أو إلغاء درجة بعض المواد العامة التي لا تمس للتخصص بصلة أحيانا أخرى. ختاما، أعتقد أننا في حاجة حقيقية إلى إعادة النظر في آليات تقييم الطلاب، خصوصا في مرحلة الثانوية وما بعدها، وبما في ذلك الدراسات العليا من إيجاد مسارات أخرى للتقييم تتناسب مع قدرات الطلاب المتباينة بين الحفظ والتذكر والتحليل والاستنباط، بدلا من الاقتصار على الامتحانات التقليدية أو فرضها مع بعض الوسائل الأخرى كالمشاريع والبحوث، كما أننا في حاجة إلى الاقتصار في حساب المعدلات النهائية على مواد التخصص فقط دون المواد العامة، والتي إن كان لا بد من وجودها على مستوى الجامعة فيتم تقليلها للحد الأدنى ولما يرتبط منها بشكل مباشر بالتخصص فقط ويكون تأثيرها على مستوى الرسوب والنجاح وتأخر التخرج فقط دون أن يكون لها أي تأثير على المعدل العام. ودمتم بخير وسعادة.
إنشرها